آراء


مظهر محمد صالح

فيليب هوفمان....الساعة ٢٥

09/02/2019


بعد أن تذوق فيليب هوفمان بهدوء نجاحاته وهو ينوء بآماله وتطلعاته، إلا أنه ظل يستعرض في أعماق قلبه أحزان الدنيا مستدركاً بأن فناء العالم ممكن، ولم يهدأ وهو يتوثب للصراع مع الذات بلا هدف حتى تكتمل سعادته، وإلا ما الذي دفعه لتناول جرعة زائدة من الهيرويين لتستحيله الى إنسان يستقبل الموت ليفترسه وهو قيمة عزيزة ظن بنفسه الخلود والأبدية وهو في العقد الرابع من عمره. فإذا بهوفمان يتحول الى ذكرى مجردة خرجت من نطاق الحاضر لتنزوي في أعماق التاريخ، تاركاً للإنسانية حصاداً ثرياً تمثل بالعديد من الجوائز التي حازها مبكراً ومنها جائزة الأوسكار في العام 2006 عن أفضل ممثل في فيلم "كابوتي".
نعاه ويبر ديفيد المعلق الشهير في صحيفة "ذي نيويورك تايمز" في يوم وفاته، قائلاً إن هوفمان هو من أكثر الممثلين موهبة من جيله وربما أكثرهم طموحاً وإعجاباً من بين أقرانه. ولكنه أدمن المخدرات في الأشهر القليلة الماضية قبل رحيله! وبين فيلمه "كرة المال" و"جبل من ثلج" وقف هوفمان شامخاً في فيلم "الساعة 25!" ليحصل على أفضل ممثل من الأكاديمية البريطانية لفنون الفيلم والتلفزيون وأفضل ممثل من نقابة ممثلي الشاشة وغيرها من الجهات الأكاديمية المتخصصة.
وجد دارسو علم الاقتصاد السلوكي، وهم يبحثون عن أثر اللامساوة في حياة الفئات الاجتماعية، الظاهرة الاتية: ان ممثلي هوليوود، من الذين يحصدون الجوائز الأكاديمية الأميركية عن أفضل أعمالهم الفنية والإبداعية، يعيشون بالمتوسط 4 سنوات أطول قياساً بأولئك الذين لم يحصلوا على الجائزة المذكورة! وان من يحصل على أكثر من جائزة من جوائز أوسكار يعيش بالمتوسط 6 سنوات إضافية أخرى! وان الجوائز المذكورة سواء عّظمت من غرور تلك النخبة الموهوبة أو عّظمت من مدخولات جيوبها، فإنها لا تخرج عن نطاق دراسة ظاهرة اللامساوة في الدخول والثروات بين فئات السكان وأثرها في حياة الناس! فقد أظهرت لنا حقاً واحدة من الدراسات التي تقدم بها علم الاقتصاد السلوكي وهي مسألة اللامساواة في الدخول بما فيهم كبار الممثلين والفنانين في هوليوود على توقعات الحياة. فبعد معرفة ان علم الاقتصاد السلوكي هو العلمٌ الذي يدمج بين العلوم الاقتصادية والعلوم النفسية وان العمر الافتراضي لظهور هذا العلم لم يتجاوز في الاحوال كافة سوى 6 سنوات بعد ولادة فيليب هوفمان في 23 تموز 1967، فقد لاحظت الدراسات الاقتصادية السلوكية، بأن فجوة الثروة بين الأغنياء والفقراء لها مشكلاتها الاجتماعية التي تتزايد مع تزايد الأغنياء وتعاظم الفقراء.
كما أن الثقة بين أفراد المجتمع تتزايد هي الأخرى مع انخفاض فجوة اللامساوة في الدخول والثروات بسبب اختفاء ظاهرة الحسد كما يقال! بما في ذلك انخفاض ظاهرتي العنف والجريمة غير المنظمة. فعلى سبيل المثال، وجدت الدراسات الاقتصادية السلوكية بأن الولايات الأميركية التي تتعمق فيها فجوة الدخول والثروات لمصلحة فئات ثرية بعينها ازاء تزايد القوى الفقيرة فيها، هي من أكثر المناطق التي ترتفع فيها مظاهر الانتحار عن غيرها. والسبب في ذلك ان الأفراد الذين ينقصهم الدخل الكافي هم أكثر عرضة لضعف القناعة والاندفاع نحو تحمل مشاق العمل ومواجهة اليأس من الحياة. وعلى الرغم من ذلك، فإن الُعشر الأول من أغنياء الولايات المتحدة يزيد دخلهم 16 مرة على الُعشر الأول من فقراء أميركا، في حين يزداد الُعشر الأكثر غنى في المكسيك بمعدل 25 مرة عن الُعشر الاول من أولئك الفقراء الذين يعيشون في بيوت الصفيح حول المدن. وبالتأكيد فإن الٌعشر الفقير من سكان المكسيك لا تضطرهم الحياة على الانتحار بمعدلات تفوق ما هو عليه الحال في أميركا. فلكل مجتمع خصوصياته النسبية، سواء كان فقيرا أو غنياً! ولكن تبقى البلدان الاسكندنافية الأقل سوءا. فالُعشر الأول من الأغنياء، في المجموعة الاسكندنافية، لا يزيد دخلهم عن الٌعشر الأول من الفقراء "إن وجد فقراء في تلك البلدان" إلا خمس مرات. وهم من أكثر مجتمعات الأرض تمتعاً بمعايير الثقة والسعادة والاستقرار بين مختلف الفئات.
ختاماً، كان إفراط هوفمان بالهيرويين، وهو يبحث عن الخلاص من الحياة، قد جاء خلافاً للدراسات الأكاديمية المذكورة آنفاً. إذ قلّب هوفمان ظهر المجن وهو في ريعان عمره وعطائه. وان مجده تحقق بتخبطه الواعي بين الخير والشر وانه لم يعرف السعادة إلا خطفاً. وقد تأبط المنون هو بنفسه قبل أن يتأبطه الموت بفترة سماح تمتد لأربع سنوات إضافية إن لم تكن ستا فوق مسيرة عمره التي كان ينبغي أن يتمتع بها مقارنة بأقرانه ممن لم يحصلوا على الجوائز الأكاديمية وجوائز الأوسكار!
هكذا أخبرتنا نظريات الاقتصاد السلوكي! ولكن هكذا خرج هوفمان من الحياة كما خرج آدم من الجنة!

image image image

آراء من نفس الكاتب


المزيد
image
الرئيسية من نحن الخدمات ارشیف الموسوعة

تنزيل التطبيق

image image

تابعونا على

الأشتراك في القائمة البريدية

Copyright © 2018 Mawazin News Developed by Avesta Group

image

اللائحة

الأقسام