ناجي الغزي
08/04/2025
تتداعى أسواق النفط العالمية اليوم تحت وطأة ضغوط مركبة، تُجسّد حالة من التداخل العميق بين الأبعاد الاقتصادية والتجارية والجيوسياسية، وسط نظام دولي يسوده الغموض، وتكاد تغيب عنه أدوات التهدئة. فمع كل تراجع في أسعار الخام، تتعمّق الأزمة وتزداد الأسئلة إلحاحاً: حيث واصلت أسعار النفط تراجعها، اليوم الإثنين الموافق 7 أبريل 2025 لتسجل انخفاضاً بأكثر من 3%، مواصلة بذلك سلسلة الخسائر التي تكبّدتها خلال الأسبوع الماضي، وذلك نتيجة ضربتين متزامنتين: تصعيد الرسوم الجمركية من قبل إدارة ترمب، وزيادة مفاجئة في إنتاج تحالف *أوبك+* الأمر الذي أثار ذعراً واسعاً في أسواق السلع والطاقة. مما يعزز المخاوف من ركود اقتصادي عالمي قد يُضعف الطلب على الطاقة. والسؤال المهم: هل نحن أمام انهيار دوري مؤقت؟ أم أنّ السوق تدخل في دورة هبوط طويلة الأمد تُنذر بتغير جذري في شكل النظام الطاقي العالمي؟ في هذا المقال، نحاول تقديم قراءة شاملة للمشهد النفطي الراهن، من خلال تتبع ديناميات العرض والطلب، وتحليل السياسات التجارية، وقياس أثر التوترات الجيوسياسية، ثم استشراف السيناريوهات الممكنة في ضوء مواقف "أوبك+" واللاعبين الكبار. *أولاً: الانهيار السعري للنفط..* تراجعت أسعار النفط بأكثر من 3% في مطلع الأسبوع، وبحسب البيانات، سجّل خام برنت انخفاضاً أسبوعياً بلغ 10.9%، حيث وصل إلى ما دون 64 دولاراً للبرميل بينما خسر غرب تكساس الوسيط نحو 10.6% من قيمته، أي كسر حاجز 60 دولاراً. وهي من أكبر الخسائر الأسبوعية منذ أشهر، وسط توقعات بتدهور بيئة الاستثمار العالمي وتراجع معدلات النمو. وفي تراجع يُعد من بين الأشد منذ مطلع عام 2021. وقد يرى محلل السلع الأولية لدى راكوتين للأوراق المالية، ساتورو يوشيدا، أن المخاوف من الركود العالمي تقود هذا التراجع، قائلاً: "الدافع الرئيسي لهذا الانخفاض هو القلق من أن تؤدي الرسوم الجمركية إلى إضعاف الاقتصاد العالمي". وأضاف أن خطط تحالف أوبك+ لزيادة الإنتاج تضيف مزيداً من الضغط على أسعار النفط، محذراً من أن استمرار انهيار الأسواق المالية قد يدفع خام غرب تكساس نحو 55 دولاراً، بل ربما 50 دولاراً للبرميل في المدى القريب. علماً إن هذا الهبوط لم يكن مفاجئاً بمقدار ما كان متوقعاً، لكنه عكس في حقيقته أزمة هيكلية أعمق من مجرد تصحيح سعري. إذ جاءت هذه الخسائر كنتيجة مباشرة لجملة من المتغيرات، أبرزها: • تصعيد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. • إعلان بكين عن رسوم جمركية بنسبة 34% على واردات أمريكية. • قرارات مفاجئة لتحالف "أوبك+" بزيادة الإنتاج بشكل مفرط. • تفاقم المخاوف من ركود اقتصادي عالمي واسع. *ثانياً: الحرب التجارية... من نزاع اقتصادي إلى سلاح جيوسياسي* لم تعد الحرب التجارية بين واشنطن وبكين مجرد خلافات حول الرسوم والميزان التجاري. ما نشهده اليوم هو استخدام مباشر للسياسات الاقتصادية كأدوات للضغط الاستراتيجي، وهو ما يجعل الأسواق في حالة قلق دائم. الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على عشرات الدول، ومن ضمنها الصين، لم تشمل قطاع الطاقة مباشرة، لكنها أطلقت سلسلة من التداعيات غير المباشرة، تمثلت في: • تباطؤ متوقع في نمو الاقتصاد العالمي. • اضطراب في سلاسل الإمداد العالمية. • ارتفاع كلفة الإنتاج في القطاعات الاستهلاكية الكبرى. • تراجع توقعات الطلب على النفط والغاز والسلع الأساسية. هذا ما أكد عليه جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، حين حذر من أن السياسات الجمركية قد تُفضي إلى موجة تضخم مصحوبة بانكماش في الاستهلاك العالمي. *ثالثاً: تحالف أوبك+ من عنصر استقرار إلى مصدر اضطراب؟* لعب تحالف "أوبك+" لأعوام عديدة، دور الموازن الحيوي لسوق النفط، عبر آليات خفض الإنتاج وضبط المعروض. إلا أن القرارات الأخيرة، وخاصة الزيادة المفاجئة وغير المنسقة في الإنتاج، شكلت صدمة كبيرة للسوق. التحالف، الذي اعتاد التحرك بتوافق حذر، بات اليوم موضع شك في قدرته على الاستمرار كمنصة موحدة لضبط السوق. ومع دعوة وزراء أوبك+ للدول المتجاوزة لحصصها إلى تقديم خطط تعويضية بحلول 15 أبريل، تلوح في الأفق بوادر خلافات داخلية قد تهدد وحدة القرار الجماعي. السؤال المحوري: هل ما زالت أوبك+ تملك أدوات التأثير كما في السابق؟ أم أن التحولات في توازنات القوة داخل التحالف بدأت تُقيد قدرته على المناورة؟ *رابعاً: الأسواق في حالة ذعر* لا تقتصر الأزمة على النفط وحده. فالصدمة امتدت لتضرب أسواق السلع الأساسية، التي شهدت هبوطاً عنيفاً يعكس قلقاً عميقاً بشأن مستقبل الطلب العالمي. • النحاس خسر أكثر من 67% من قيمته خلال فترة قصيرة. • الغاز الطبيعي تراجع بنسبة 10% في أوروبا. • أسهم شركات التعدين الكبرى سجلت انخفاضات قاربت 9%. • رهانات المستثمرين على تراجع أسعار النفط بلغت 73%، وهو أعلى مستوى منذ الأزمات المالية الكبرى. هذا المزاج السوقي لا يعكس فقط الواقع، بل يساهم في صنعه، إذ يُغذي دوامة القلق والتسييل القسري، ويزيد من هشاشة المنظومة الاستثمارية بأكملها. *خامساً: الأفق المستقبلي - سيناريوهات ثلاثة* في ظل هذا المشهد المتداخل، تبدو السيناريوهات المستقبلية مفتوحة على أكثر من احتمال: 1. سيناريو الركود العميق: إذا استمرت الحرب التجارية، ودخلت الاقتصادات الكبرى في مرحلة انكماش، فإن أسعار النفط قد تهبط دون 55 دولاراً، وربما 50، مع تراجع مستمر في الطلب وزيادة الفوائض. 2. سيناريو التعافي الجيوسياسي: أي تهدئة في العلاقات الأمريكية الصينية، أو اتفاقات لخفض الإنتاج من "أوبك+"، قد تعيد التوازن للأسواق مؤقتاً، وتدفع الأسعار للعودة فوق 70 دولاراً. 3. سيناريو الفوضى الإنتاجية: إذا فشل تحالف "أوبك+" في ضبط الإنتاج، وارتفعت وتيرة السياسات الحمائية، فقد نشهد فوضى مشابهة لتلك التي سبقت انهيار 2020، مع تأثيرات عميقة على اقتصادات الدول المنتجة. في نهاية المطاف، لم يعد النفط مجرد سلعة تُقاس بالبرميل والدولار، بل بات مؤشراً حساساً على صحة النظام الدولي بأكمله. إن التراجع الحاد في الأسعار لا يُعبّر فقط عن اختلال في معادلة العرض والطلب، بل يكشف عن اختلال أعمق في منظومة الاستقرار الاقتصادي والسياسي العالمي. وبين مطرقة الحرب التجارية وسندان الإخفاقات المؤسسية، يظل السؤال الأبرز: هل يمكن للأسواق أن تستعيد توازنها في ظل غياب رؤية دولية موحدة؟ الإجابة مرهونة بمدى قدرة القوى الكبرى على إدارة الخلافات، وقدرة التكتلات الإنتاجية على الحفاظ على التماسك، في عالم لم يعد يحتمل مزيداً من الصدمات.
تنزيل التطبيق
تابعونا على
الأشتراك في القائمة البريدية
Copyright © 2018 Mawazin News Developed by Avesta Group