آراء


مهند الساعدي

العراق : حزبان يكفي

23/02/2019

الأزدحام يعيق الحركة، وقد أعاقت كثرة الاحزاب  الحياة السياسية في العراق، وشتت أصوات الناخبين، وخلطت المدارس السياسية، واضافت بعضها للبعض الاخر، دون وجه اضافة،  بحيث لم يعد تعريفها السياسي سهلاً على الإطلاق.
ولا خلاص لنا من ضيق هذا الازدحام إلا بمراجعة قانون الاحزاب السياسية رقم ( ٣٦ ) لسنة ٢٠١٥ الذي تساهل كثيرا في شروط تسجيل الاحزاب ، وجعل ٣٣٠ قبيل خوض الانتخابات النيابية الاخيرة  ٢٠١٨، واشاعة وعي معاكس، يهتم بشرح الحزبية، ويعيد تعريف دورها الوطني، والتنظيمي، الذي يخرج بها من كونها مجرد رغبة بممارسة الحرية السياسية، الى السعي لتمثيل مصالح اكبر عدد من المواطنين من خلال احزاب كبيرة . 
احزاب العراق الفاشلة اكثر من شركاته الناجحة ! وهي اكثر من مزارعيه الكبار، وتجاره ، ونخبه، ومنتجيه، ورجال الدولة والإدارة انفسهم ! هي نسبة لا شبيه لها في دول العالم تقريباً .
لا دلالة صحية اطلاقاً، يحملها هذه التضخم في حجم الاحزاب، والأعم الاغلب فيها لا يمت الى شروط وأركان ومقومات وأوصاف الحزبية بصلة، لان بعضها هي جماعات تعبير عن الرأي، وبعضها الاخر جماعات مصالح صغيرة، وغيرها  تمثل مقاولين، وشيوخ عشائر، وأمراء حرب معفو عنهم، وزعماء ميلشيات، وبرانيات (مراجع) من الدرجة الثالثة، ووكلاء دول إقليمية، واخرى واجهات لجماعات واتجاهات عقائدية ودينية غنوصية ومتطرفة ولا تؤمن اصلاً بمشروع الدولة ولا تحتكم في بنيتها الاصلية والفرعية الى قواعد العمل السياسي.
احزاب العهد الملكي ( ١٩٢١-١٩٥٨) ماتت ، وأحزاب العهد الجمهوري الاول( ١٩٥٨-١٩٦٨ )  ذبحت، وأحزاب الطبقة الوسطى انحلت مع انحلال مصالح هذه الطبقة وتراجع الشعور بها الى مراتب متاخرة عن الايديلوجيا والهويات الفرعية، ولم يبق الاحزب واحد لم يكن ملكياً فيقتل، ولا جمهورياً فيموت، مؤسسوه من شباب العهد الملكي، وقادته وكوادره وتجربته نمت في العهدين الجمهوريين. وهو الحزب الذي قادته بكارته السياسية هذه للبقاء على راس الحكومات المتعاقبة منذ سقوط النظام الاستبدادي القمعي في ٢٠٠٣ والذي من لا يعترف بانه الاقوى، يقول انه اقوى الضعفاء .
الشيوعي خرج من التاريخ والجغرافيا ولم يستعد حجمه، والبعث قتل نفسه قبل ان يسقط، والاحزاب الكردية تضم كوادر ورجال دولة مهمين، لكنها سياسية في كردستان، اما في بغداد فهي أشبه بمكاتب لرعاية مصالح الأقليم، وليس لها إسهام حقيقي في العمل السياسي الاتحادي يتخطى المشاركة السياسية، الى بناء حياة سياسية حقيقية، واعادة تعريف العمل الحزبي بناءً على الهوية والمذهب السياسي، والبرنامج .
اما الاحزاب الاسلامية فهي في العراق طائفية بالضرورة، طائفية في العقيدة والانتماء الجغرافي، وهي في بعدها الاسلامي العام لا تزال تخوض مرحلة التمكين والصراع على هوية الدولة، الذي لا زال يحتل الاولوية على حساب برامجها لإدارة الدولة، وهي في بعدها الفرعي الطائفي لا تزال تمثل مجتمعاتها المنقسمة، الخارجة من عهد الصيغ المغلوطة لنشؤ الدولة، والمرتجفة من التاريخ القديم القريب، والتي تنتظر لحظة التوازن التي يشعر فيها الجميع بالاطمئنان على هويته وحقوقه الطائفية التي كانت مهددة باستمرار .
تنقسم الاحزاب اليوم، بحسب صيغ ونماذج تشكلها التاريخي في العراق الحديث الى قسمين : القسم الاول يمثل المحاولة الاولى لتشكيل الدولة منذ تأسيسها ( ١٩٢٠-١٩٢٣ ) والقسم الثاني يمثل ردة الفعل على فشل نفس هذه الدولة، وتعثر مشروعها، وعدم قدرتها على تجاوز عيوبها البنيوية ، وضعفها عن القيام بعملية دمج حقيقية للهويات الفرعية في هوية وطنية تتمثل في الامة العراقية المفقودة .
وهذا ما يفسر لنا كيف قاد التحالف ( التوافق ) ؛ الاسلامي الشيعي - القومي الكردي ، العملية السياسية بعد انهيار الدولة والنظام عام ٢٠٠٣ وأحكام  قبضته عليها، وكتابة دستورها ( رفضته المحافظات السنية ) وتشكيل حكوماتها المتعاقبة. لقد كانت الاحزاب الشيعية والكردية هي من القسم الثاني من الاحزاب التي قامت بمشروع الاعتراض على بنية وهوية وتوازن الدولة، وبقيت تقوم بدور المعارضة حتى انهارت هذه الدولة فحملت هذه الاحزاب أحجار هذا الانهيار الكبيرة، وحاولت اعادة ترتيبها بصعوبة بالغة . هذا ما أنتج لنا (دولة المكونات ) لان هذاالحس( المكوناتي )لم يكن يعني اكثر من أعادة تركيب دولة، لم تكن هذه الاحزاب لتعترف بقواعد نشأتها وصيرورتها الاولى .
احزاب الهوية واحزاب المكونات لا يمكن ان تكون احزاباً سياسية كاملة، هي نصف سياسية في مرحلة اعادة تركيب اجزاء ومكونات الدولة، وهذه مرحلة أجبرنا جميعاً  على التعايش معها، وهي ما سبب تراجع البرامج والإدارة والتنمية والتحديث حتى اليوم .
ماذا يفعل الليبراليون والعلمانيون في الاحزاب والتحالفات الاسلامية ؟
لا يوجد تحالف يقوده حزب إسلامي إلا وجدتَ فيه المزيد من رموز وقيادات علمانية ؟ ان من فكر بواقيعة منهم ادرك انه لا يمكن ان يعود لتعريفه السياسي البسيط ما لم يدخل في هذه الاحزاب ( الاحزاب الموقعة بالقلم الاحمر على العقد الاجتماعي الجديد ) المشاركة في ورشة اعادة التشكيل والتصحيح ، انهم علمانيون اجلوا مشاريعهم السياسية بانتظار قيام الدولة، وكان دخولهم في الاحزاب الاسلامية او القومية الكردية أشبه بتمرين مراوحة في صالة انتظار طويل.
من هنا عُدّت الاحزاب الملكية والجمهورية مهزومة للمرة الثانية لانها ارتبط بصيغة دولة انهارت، وقامت آلان على أعقابها دولة جديدة بأحزاب جديدة و متعاقدين اجتماعيين جدد .
لقد ماتت هذه الاحزاب مرتين : الاولى نتيجة الصراع داخل الدولة ، والثانية نتيجة انهيار الدولة ذاتها .
تحاول احزاب التاسيس الثاني ان تحسم صراعات التاسيسة مرة اخرى ، بطريقة اكثر عدالة ، مستفيدة من اخطاء ثمانين سنة من الفشل والانسداد والدمار .
لقد كان الصراع مع الدين التاريخي ومؤسساته جزء من عملية بناء الدولة القومية في اوربا، وكذلك الصراع المذهبي الكاثوليكي البروتستانتي والتمركز الأرثوذكسي وثورات الفلاحين، وحتى العشائر والبيوتات ( عائلة روريك في روسيا وعائلة كابيتيان في فرنسا وعائلة آرباد في هنغاريا )  فضلاً عن الدور الذي لعبته الطبقة الأرستقراطية النخبوية وطبقة النبلاء الاعلى منها ، وحتى الملوك الذين كانوا جزءاً من تاريخ بناء وقوة وهيمنة ونجاح الدول الحديثة .
والعراق يعيش اليوم عالقاً في ملابسات تلك الحقبة من التاريخ، خارجا من الزراعة داخلا الصناعة، خارجاً من الاستبداد داخلا الديمقراطية، خارجاً من الهويات الفرعية داخلاً في هوية الدولة الامة، خارجاً من الحرب الأهلية الى السلام المجتمعي، وهذه دورة من التاريخ يجب ان تستكمل بسرعة قصوى ، فهولاء هم نحن، وهذا هو عمرنا الحضاري الحديث وهذه هي المرحلة التي نعيشها .
لكن ماذا بعد ذلك ؟
ماذا بعد ان تستفرغ مرحلة المغالبة الطائفية جميع مخرجاتها، ويستعيد المجتمع والدولة الثقة المفقودة بين الطائفتين ؟
وماذا بعد استقرار الدولة على صيغة تضمن الحقوق القومية للأكراد ؟ بماذا ستعمل الاحزاب الطائفية اذا ما اعلن العراق نهاية الطائفية السياسية ؟ وبماذا ستعمل الاحزاب القومية الكردية اذا لم يعد في العراق مشكلة قومية ؟
ثمة فرق هائل في الحالة الكردية ببين احزاب قومية او وطنية تسعى لبناء مشروع الامة والدولة ، وبين احزاب اخرى تطرح المسالة القومية الحقوقية .
فالنوع الاول من الاحزاب القومية توحد المُقسم ، اما النوع الثاني من الاحزاب فتُقسم الموحد .
حزبان يكفي ؟
لا يحتاج العراق الى اكثر من حزبين اثنين يكفيانه لما تبقى من القرن الحادي والعشرين :
حزب إسلامي محافظ يؤمن بالعدالة الاجتماعية والتنمية البشرية يضم جميع العراقيين سنة وشيعة و حتى غير المسلمين منهم .
وحزب اخر عراقي وطني علماني ليبرالي غير محافظ يظم جميع العراقيين بما فيهم المتدينين .
الحزب الاسلامي العراقي و الحزب الوطني الديمقراطي العراقي .
حزبان يتنافسان على ادارة وتطوير وتحديث دولة تعبر عن أمة عراقية واحدة ، مفروغ من هويتها وبنيتها وتوازن حقوق مكوناتها لا على قاعدة المحاصصة بل على قاعدة ان الوطن للجميع وهو كله حصة الجميع.

image image image

آراء من نفس الكاتب


المزيد
image
الرئيسية من نحن الخدمات ارشیف الموسوعة

تنزيل التطبيق

image image

تابعونا على

الأشتراك في القائمة البريدية

Copyright © 2018 Mawazin News Developed by Avesta Group

image

اللائحة

الأقسام