آراء


رباح ال جعفر

وتهون الأرض إلا موضعا

25/09/2021


في الملحمة الشعرية "الإلياذة" و "الأوديسة" تقرأ لشاعر الإغريق هوميروس أن الحب معناه الشهامة والبطولة. والفيلسوف أفلاطون يفسّره بحب الناس والجميلات. وعند أستاذ الفلاسفة أرسطو هو حب الله.
وفي كتاب "طوق الحمامة" لمؤرخ العشق والعاشقين ابن حزم، وهو عالم دين، تقرأ من أشعار الغرام وأسرار الهيام وأخبار النساء. مثلما تقرأ عن الحب من أول نظرة، وفن الرسائل، وملامح المرأة وملاحتها!.
ومن مواضع العشق التي يحنّ إليها الشعراء والمحبّون والعشاق المعاميد. ويشتاقون لها في أشعارهم جبل التوباد:
جبل التوباد حياك الحيـا
وسقى الله صبانا ورعى
هناك في قلب كل عاشق جبل توباد. لا أروع منه ولا أوقع. مكان يشتاق إليه المصابون بالحنين ويحلفون بالقمر شاهداً على لوعتهم، ورمزاً لكل مكان ينبت العز. يستعيدون بتذكره حزمة من الذكريات. يعيشون على أطلالها. ويهربون إليه من عيون الناس ومن قسوة الزمن!.  
ويمكنك أن تتخيّل كم غرام وكم هيام وقع عنده؟ وكم معذب ومقهور.. ويا ليل ويا عين؟ وكم من حكايات يجتاحها الأسى وروايات يغمرها الندم؟ وكم كتب له الشعراء أيام كانت الدنيا قصائد موزونة ومقفاة. من شيخهم قيس إلى أحمد شوقي. وعزف أهل الهوى على ذكراه لحناً اهتزت لموسيقاه القلوب من محمد عبد الوهاب إلى ناظم الغزالي؟!.
والعشاق يبكون على كل ذكرى. يتحسّرون عليها أو يحلمون بعودتها. مثل حمامة تنوح على هدم المآذن. فتراهم يبكون على ليلى وديارها. على عفراء وبثينة وجميلة. على الأطلال والجدران والشبابيك. إنهم "مُذلون ومُهانون" كما في رواية دوستويفسكي. يبكون على خرائط الضياع. وعلى زمن يقولون إنه كان جميلاً. على أحلام تبعثرت، وآمال تكسّرت، وأقفال قلوب تحطمت. يقولون لو عادت بهم الأيام إلى زاوية أو ساقية. إلى جرف على نهر أو نخلة في بستان. إلى زقاق أو مقهى. كأن الدنيا كانت تحت أيديهم. إنهم يبكون على أغنية قديمة. أو مسمار في حائط.. أو صورة على جدار. أو وردة منسيّة في كتاب!.
وكل واحد منهم يبكي على ليلاه أو على بلواه، وقد سألوا بدوياً: من أي بلاد أنت؟ قال: من بلاد إذا أحب الإنسان فيها مات!.
هل كانوا مرضى؟ هل هم مجانين؟ ولماذا هذا العذاب؟ لماذا هذا الألم؟ ماذا يعني أن يبكي متمم بن نويرة عند كل قبر يراه ظنّاً أنه قبر أخيه مالك؟ وما الذي يجعل بدر شاكر السياب يحنّ إلى عشّ عصفور على شبّاك وفيقة إذا عزّ في الفجر لقاء؟ ومن هي الحبيبة المجهولة ك في غراميات توفيق صايغ؟ وأين ذهبت جلنار ميشيل طراد؟ وبلقيس نزار؟ ولميعة جبرا؟ وما الذي يجعل عميد الأدب العربي طه حسين يحتفظ بمنديل سوزان يستنشق عطره كلما داهمه الحنين؟ وما الذي يجعل أديباً كبيراً مثل عباس محمود العقاد يبقى محتفظاً ببلوزة صوف أهدتها إليه محبوبته ليقول فيها شعراً:
ألم أنلْ منكَ فكرة   في كل شكةٍ إبرة
وكل عقدةٍ خيــطٌ   وكل جــفرةٍ بكرة
ما أوجعها من تذكارات عندما يُهال عليها التراب نسياً منسياً. قال شوقي:
قد يهـون العمـرُ إلا ساعة
وتهون الأرضُ إلا موضعا!.

رباح ال جعفر

image image image

آراء من نفس الكاتب


المزيد
image
الرئيسية من نحن الخدمات ارشیف الموسوعة

تنزيل التطبيق

image image

تابعونا على

الأشتراك في القائمة البريدية

Copyright © 2018 Mawazin News Developed by Avesta Group

image

اللائحة

الأقسام