آراء


عمر الحياني

الملك الضليل فريد

14/09/2020

يخلق من الشبه أربعين إلا الأطرش، فمن يشبه ملك العود من يشبه موسيقار الأزمان وهو الواحد دونهم جميعا. عشتَ في حياتكَ فريداً.. وعشتَ بعد موتكَ فريداً.. وعجز نحو نصف مليار ناطق لغتكَ أن يقلد صوتكَ وعجز نحو ثمانية مليار إنسان أن يأتي بمثلِ أوتاركَ
 بحبك في قربك وبعدك
 بحبك في غدرك وودك
 بحبك بحبك بحبك

أقولها بكل يقين لو حدثت معجزة وتكرر عبد الوهاب فاستحالة أن يتكرر الأطرش. فريد هو ذلك الأمير السوري الأصل من سلالة الأمراء لكنه عاش بعيدا عن إمارته وعن موطنه الأصلي سورية هربا من الفرنسيين الذين كانوا يطلبونه الثأر لوطنية والده فهد الاطرش وعائلة الأطرش والذي عاش مناضلا وقاتل ضد ظلم الفرنسيين في جبل الدروز بسورية. فعاش حياة بئيسة فقيرة في مصر واضطر لتغيير اسم عائلته فأصبحت كوسا بدلاً من الأطرش زمنا طويلا مما سبب له ولأخته أسمهان (آمال) المضايقة الحزينة. عاش حياته في مصر بين حسد كبار المطربين والملحين له ولأخته وغيرتهم منه ومحاربتهم إياه خشية أن يغطي عليهم جميعا لكن الملوك والأمراء لا ينظرون إلى تلك الأمور إلا على أنها صغيرة وإن كانت كبيرة موجعة:
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم

أضاعت سورية مفخرة الأطرش إذ تخلت عنه ولم تحافظ على هويته السورية ولم تحظى مصر بحظ وافر من نصيب الفخر به لطائفية وعرقية كبارها ومحاربتهم إياه فخسرت كلتا الدولتين ذلك المجد والرفعة لكن الأطرش كان دولة لوحده ومملكة عظمى لوحده بل صنع لنفسه امبراطورية كبيرة حتى أن الكبير عبد الوهاب الذي كان يرى نفسه الأكبر على كل الملحنين وهو بحق كان كبيرا لكنه كان يرى نفسه صغيرا أمام الأطرش، مما جعله يحاول عدّ نفسه المنافس له بل وعدّ منافسته للأطرش شرف ما بعده شرف..
وكأن لسان حال فريد كان يقول:
لا بِقَومي شَرُفتُ بَل شَرُفوا بي
وَبِنَفسي فَخَرتُ لا بِجُدودي
أَنا تِربُ النَدى وَرَبُّ القَوافي
وَسِمامُ العِدا وَغَيظُ الحَسودِ

ومما يؤيد ذلك قول محمد الموجي عنه: "إن فريد كان فنانا صادقا، وإنسانا صادقا، وسط إطار يخلو منه الصدق تماما، بل يملأه الكذب تماما" فريد لم يكن يبالي لكل تلك المحاربات وهذه من صفات الكبار، تذكرني عدم مبالاته بقصة كنتُ قد قرأتها قديماً ملخصها أن الشاعر الأموي بشار بن برد عندنا كان صغيرا أراد الشهرة بهجائه الشاعر الكبير جرير، لكن جريرا أعرض عنه وتجاهله وفي ذلك يقول بشار: "هجوت جريرا فأعرض عني ولو هجاني لكنت أشعر الناس" ولا بد من قارئ هذه السطور أن قد مرت عليه قصة جلجامش وبحثه عن عشبة الخلود بعد موت صديقه (أنكيدو) فأيقن في نهاية المطاف أن الإنسان يخلد بعمله الصالح لا بعمره الطويل، نفس الموقف حصل مع الملك فريد بعد أن نصحه طبيب القلب قائلا: "إما أن تغنى وتموت! أو تعتزل وتعيش" فضرب نصيحة الطبيب عرض الحائط لمدة أربعين عاما إيمانا منه أنه لن يعيش أقل مما قُدر له. إنسانيته الخاصة تلك وبساطته جعلت عبد الوهاب يخضع له ويحبه كثيرا ويحترمه إجلالا وإن كان ندا له في الموسيقى، ومن صفات الكبار الاعتراف بمحاسن الخصوم، تماما كما مدح عنترة بن شداد عدوه أروع مديح بقوله:
ومدجج كره الكماة نزاله
لا ممعنٍ هرباً ولا مستسلم

أن يكون لك خصم كبير فأنت كبير، لذا قال عبد الوهاب عن الأطرش صراحة: "فريد كان موهوبا وواثقا من نفسه ثقة كبيرة، فاللحن في يده لا يستغرق أكثر من دقائق معدودة. كان يضع الكلام الذى سيلحنه، ثم يلحنه، ولا يغير فيه أبدا مهما كان، ولا يضيع وقته في (الوسوسة) عملا بالمثل القائل: ليس في الإمكان أبدع مما كان" لقد صدق عبد الوهاب وهو صدوق فكيف بإنسان مثل فريد يقضي أكثر حياته بين ازدحام الأصدقاء والسهر الطويل والحفلات الدائمة أن يجد وقتا لاختراع ألحانه إلا أنه كان يؤلف اللحن من غير جد أو تعب تماما كما كان يفعل المتنبي في قول الشعر:
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا
وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ

ظلمت مصر الأطرش كثيرا بل وظلمت نفسها في عدم الإغتراف من ملحمة المجد الكبرى يضاف إلى حضارتها العظيمة، لكنها بعد موته كرمته، بإصدار طابع بريدي باسمه، وبوضع تمثاله الذهبي في دار الأوبرا، وهو يجلس شامخا مع عوده متربعا بين القمم (عبد الوهاب وعبد الحليم)، لكنه كان قمة القمم. ومتربعا جنب السيدة (أم كلثوم) التي تجاهلت ألحانه العظيمة رغم معاصرتها له وهو في عز مجده، ورفضت أو تهربت من الغناء من ألحانه لأسباب غير معروفة رغم اعترافها بعبقرية فريد الأطرش الذي نفد صبره من معاملة كوكب الشرق له. لكن الملك الضليل قبل وفاته بعام انهار في حديثه للإذاعة السورية عام 1973 فخرج عن صمته عندما قال حرفياً: "هي بتكرهنا.. ماتحبناش" يقصد نفسه وشقيقته الفنانة فهما ينحدران من أسرة درزية سورية الأصل. لكني أرى أن أم كلثوم لم تكن تتجاهله لأمر عرقي ولا لأنه غير مصري الأصل بل أما لأنه شقيق اسمهان التي كانت السيدة أم كلثوم تغار منها كثيرا أو لأنه لم يكن ملحنا فحسب بل كان مغنيا كذلك، أي إنه كان منافسا لها، يشار إلى أن السيدة لم تأخذ الألحان بشكل رسمي من عبد الوهاب إلا عندما اتجه للحن فقط تاركا الغناء أو شبه تارك له، لكن أصابع الاتهام كانت تشير إلى أن السنباطي وعبد الوهاب كانا يضغطان على أم كلثوم من أجل عدم الغناء من ألحان الأطرش. وربما كان صادقا هذا الاتهام فالمحب الحاذق للأطرش أو لعبد الوهاب يعرف أن الأخير في لحظة صادمة قد أبدى إعجابه الشديد بأغنية "أنا واللى بحبه" التي غناها ولحنها الأطرش لمأمون الشناوي معلقا عليها أنه: "على استعداد للتنازل لفريد عن 5 سنوات من عمره مقابل مطلع هذه الأغنية".

في نهاية المطاف رحل عنا العبقري فريد موسيقار كل الأزمان ولم أتطرق لحياته العاطفية الخاصة فذلك شأن يخصه وأن كان وقتها قد شغل مساحة شاسعة من الصحافة المصرية والعربية لكني سأكتفي بذكر أن الأطرش مات أعزبا، تاركا لنا إرثا موسيقيا عظيما لا ينضب ولا يشيخ. ومن يستمع لتقسيمات (أغنية الربيع) على سبيل المثال لا الحصر لأيقن أن فريد حي يرزقنا من عوده ما يجبر خواطرنا أو يواسي أفئدتنا مما نعانيه من حزننا المقيم أو هموم حياتنا الوفية بصحبتها الخالدة لنا! ومن المفاجئات السارة لي أني وجدتُ بين الشباب عددا وإن لم يكن كبيرا يتذوقون فريد لحنا وصوتا! كانت مفاجئة مفرحة بالنسبة إلي لكن هل ثَمَّ مِنْ جيل سيقبل على جمال الأطرش؟! فمن لا يسمع الأطرش فهو أطرش لا محالة.

image image image

آراء من نفس الكاتب


المزيد
image
الرئيسية من نحن الخدمات ارشیف الموسوعة

تنزيل التطبيق

image image

تابعونا على

الأشتراك في القائمة البريدية

Copyright © 2018 Mawazin News Developed by Avesta Group

image

اللائحة

الأقسام