آراء


عدنان ابوزيد

الغبطة الماضوية

23/07/2020

تتضخم في العقل العربي حصى فكرية غير قابلة للتفتت حتى تحت اشعة التحديث الليزرية، وهي من صناعة ثوابت معظّمة لا تؤمن بالمتحوّل، جاعلة من التاريخ متحجرا تغطيه الطلاسم والاوهام، لا يكترث لمتغيرات العلاقات والمفاهيم، فلا يحاور واقعا مغايرا، ولا يتكامل مع واقع مطابق، بل ان الوعي العربي يذعن لسلفيته التي يعتبرها مثالية، ويتباهى بالخضوع الى مرجعياته النقلية التراثية المقدّسة في دفتر الماضي.
ولا تشذ الحالة العراقية، عن الثقافة الاجتماعية وطرائق التفكير العربية الديماغوجية المبجِّلة للموروث التقليدي، لتصبح في العقود الأخيرة، من أعجز الثقافات في المزاوجة بين اشكاليات التحديث، والجذور الراسخة، وبدأت تقف على الأخيرة، غير منجذبة الى العصر والعولمة.
المنهجية المسيطرة اليوم تنحصر في البحث الانتقائي في الماضي، وسرديات التاريخ والاستنساخ المعرفي المقلّد بما يتوافق مع الاهداف السياسية للقوى المسيطرة، وهي في أغلبها توظيف لأحداث الماضي المتّسقة مع ايديولوجيتها واعتبارها مثالية. أما المتناقضة مع هواها الفكري، فإن المجال مفتوح لتقبيحها، واعتبارها هزائم، وقد أدى ذلك الى معارك عصرية وحروب على الصنميات والقبور.
تشعر السلوكية الانبهارية بالماضي، بالنقص والاختلال أمام انجازات العصر، ما يدفعها الى تأويلات فكرية، وتزويقات بلاغية، وهو أمر اشتهر به العرب كأمة كلام، وبلاغة خطابية زعمية، لتنسب التقدم والتطور والاختراعات الى نفسها، وتراثها، بواسطة أدوات الخطاب الادعائي الذي يستند بكل وعيه الى التاريخ، ولا يستطيع العيش في الحاضر.
أي فكر اختلاقي، يستند الى نرجسية ماضوية، ولا يمتلك من أدوات القوة سوى المنابر الخطابية، وتغليف الماضي، بطلاءات عصرية غير راسخة، ينهار عاجلا أو آجلا، وإن طال به الوقت، لأنه يفتقد الى أبسط مقومات البقاء، في البعد التحليلي، والقدرة على تحقيق انجاز مادي والتأسيس لأدوات ملموسة في البناء. 
أحد أسباب سيادة الثقافة الغربية، وتمكّنها من عقول البشر، قدرتها على الأثر، لا بالخطاب البلاغي، والمنابر الوعظية، وإعادة اجترار الماضي، وإنتاج نسخ جديدة له، بل في امتلاكها أدوات مادية في البحث والابتكار والإنتاج، الامر الذي جعلها ضليعة في الغزو الثقافي. 
ولأنّ الفكر الغربي، متطور في تقنياته، فقد أنتج الميديا عوضا عن المنبر، مكتسحا العالم في القدرة على التأثير، بينما رسخت الثقافة العربية على الابواق المنبرية التقليدية المعبأة بالماضي، من خلال نرجسية محاطة بتفريط معرفي واضح.
مثالان صارخان على سذاجة الفكر الماضوي، وغلبة المفاهيم الميتافيزيقية، الأول: “ الحرب على العراق العام 2003، وكيف واجه العرب آلة الغرب المتطورة الضخمة، باستدعاء أدوات تاريخ مضى عليه أكثر من ستة آلاف سنة، ليس لها من الإنجاز شيء يذكر في دفتر العصر.
الفكر المتأزم والموتور، يواجه التحديات على انها مؤامرة مدروسة، وتبدو أنساقه على طلاء واحد من تجارب سلفية وتاريخية يعتقد بأنها نموذجية، بينما شخوص الحاضر هي ذاتها، تكرارا مقيتا للسلف، لهذا يتقهقر الى الماضي الذي يجد فيه ملاذاً آمنا من الفشل، متذرعاً بالمحافظة على اخلاق الامة وتاريخها، وقيمها ورموزها.
يحتاج الوعي العربي الى تجاوز اذعانيته وسلفيته المثالية، والخروج من كهف التقليدية والوعظية الفكرية، وهذا يتطلب تفعيلا جديا للوعي النقضي الذي يقوم على تبني انساق البحث العلمي ووضع الافكار الموروثة موضع المساءلة، وتطوير ادوات معرفة جديدة بالانفتاح على العالم المتقدم، ووضع الشك والمساءلة الدائمة ضمن آليات التفكير.
وبواقعية أكثر، علينا الاستجابة لعقلانية الحاضر، وتجاوز مكر التاريخ بوصف الفيلسوف هيجل، والانكباب على البحث العلمي البيكوني، للانعتاق من سيطرة الماضي على أفكارنا، ومنطلقاتنا، لتجاوز الميتافيزيقيات، والجدليات المعبأة في أجواف الكتب من دون أن تحقق إنجازا حضاريا. 

image image image

آراء من نفس الكاتب


المزيد
image
الرئيسية من نحن الخدمات ارشیف الموسوعة

تنزيل التطبيق

image image

تابعونا على

الأشتراك في القائمة البريدية

Copyright © 2018 Mawazin News Developed by Avesta Group

image

اللائحة

الأقسام