آراء


عمر الحياني

وترجل البطل

01/07/2020

(في رثاء الطبيب عبد كاظم جاسم الذي مات بالكورونا)
يا لخسارة ذلك العمر الذي قضاه الدكتور عبد كاظم بين أسارير المرضى الراقدين في المشافي وبين الوافدين إلى عيادته يطلبون منه نجاة من مرض ألمّ بهم.. عيادته، ما زلتُ أتذكرها جيدا.. أتذكرها وأعرف موطنها الواقع بين شارع الأطباء وشارع السينما في مدينة الرمادي، حيث يرقد عبد كاظم بعد منتصف الظهيرة بانتظار مرضاه القلائل بناء على رغبته الذين زاد عددهم قليلا لطلبهم الملح في زيادة العدد فلقد كان طبيبنا الراحل عندما يعاوده مريض يطيل التشخيص والتدقيق في حالته للتأكد من معاينة المرض فالأهم عنده هو شفاء الإنسان وليس سعر الكشفية ولا كم سيجمع من ذلك اليوم. ذات مرة كنا نبحث عن طبيب باطنية لأمي فقالوا لنا اذهبوا بها إلى الدكتور عبد كاظم فعنده الحلول التي لن تجدوها عند غيره . لم نكذب خبرا فذهبتُ بأمي إلى الدكتور فوجدتُ وجهها يبعث الطمأنينة والسكينة لكل مريض هزمه المرض وشاهدتُ أسلوبا في التعامل لا يشبه إلا ذلك الأب الذي يمازح طفله الصغير يمازحه فيمنحه البراءة والأمان الذي يبحث عنه المرضى فيا للحسافة على أيام تغدر بك وأنتَ كنتَ لها جبلا يستظلُ بظله كل خائف يبحث عن مأمن.. وا أسفاه على زمن يُسقَط من مثلك وقد كنت جسرا يربط الفضائل بالفضائل ويربط المكارم بالمكارم ويربط الحنان بالحنان ويربط الحب كله بالحب كله.. ما عادت الأيام مثل بعضها يا عبد كاظم، هنا انتهت نقطة التقاء الشوق بالشوق، هنا انطفأت شعلة الذكريات التي كنت تقلب في صفحاتها.. ذكريات الديرة وجمعة الأهل والصحب والخلان.. جمعة الأصدقاء والرفاق والجيران.. ذكريات الأولاد ودفاتر الطفولة..! هنا استحال الوصول فهاجر معك سرب الحمام الذي كان يغني مطلع كل صباح! هنا فقدتِ الفراشات قيمتها في الجمال..! هنا رائحة الزهور لم يعد لها أي أهمية..! فمنظر الحزن يخيم على البستان..! هنا انتهت الحكاية يا حبيبنا عبد كاظم..! حكاية تلك الليالي التي أسهرتك طويلا تبحث عن مشاكل المرضى والمحتاجين والفقراء من أهل منطقتك..! هنا انطوت صفحات الإبداع  والثبات على المبادئ والركوع للقيم.. هنا زال ذلك الإيمان الذي كان يستمده منك المقربون والأهلون والزملاء والأطباء وحتى المرضى الذين كانوا يلجؤون إلى تلك العيادة التي كان يركن فيها الأمل والتفاؤل..! وداعاً وداعاً..! وداعاً عبد كاظم جاءت متأخرة ففي الصدر غصة وفي القلب آه وفي العيون دمع قد أحرق تلك المواقف التي ما زال طيفك ينسدل فيها إلى الآن..! وداعاً جاءت متأخرة لأن الصدمة كانت أكبر من صبرنا يا حبيبنا الدكتور.. جاءت متأخرة لأن الذاكرة لم تستوعب معنى أن يرحل الياسمين الذي كان عطرا لكل العاشقين.. جاءت متأخرة لأن القلوب ما زالت لا تؤمن بنظرية أن يوماً ما سوف تبكي العصافير على غصنها المفقود..! وداعا دكتور عبد كاظم وأنت تحمل شرف المهنة على صدرك، مرفوع الرأس، أبيض القلب، طاهر الروح والنبل والشيم والأخلاق.. ترجلتَ وترجلَ معك أطباء لن يعوضهم الزمن، ولن تكررهم الأيام.. سيشتاقُ لكَ كل من عطف عليه الدهر بلقائك ولو ليوم واحد.. وستفتقد غرفتك التي كانت مزارا للتداوي والشفاء.. وداعاً يا طبيب الرحمة والشفقة والإنسانية والوداع الوداع لكل عالم جليل خسرناه فهي من كبرى خسائر العراق في عراقنا الجديد ..!

ألا مات من مات السماح بموته
وكل عطاء نقدُهُ كضِماره
فتى كان كالعذراء في ظل خدرها
وكالأسد الرئبال في ظل داره
تبلج عند الموت وابيضّ وجهُهُ
تبلُجَ ضوء الفجر عند انفجاره
فلو كان يدري قبرُهُ من يحِلُّهُ
تفرَّجَ بالترحيب قبل احتفاره
عليك سلام اللَه حيّاً وميّتاً
تباشرتِ الموتى بقرب جواره

image image image

آراء من نفس الكاتب


المزيد
image
الرئيسية من نحن الخدمات ارشیف الموسوعة

تنزيل التطبيق

image image

تابعونا على

الأشتراك في القائمة البريدية

Copyright © 2018 Mawazin News Developed by Avesta Group

image

اللائحة

الأقسام