آراء


عمر الحياني

ملائكة تمثلوا ببشر

27/06/2020

يقول الشاعر العباسي ابن نباتة السعدي، أحد شعراء سيف الدولة الحمداني:
نُعَلَّلُ بالدّواءِ إذا مَرضْنا
وهل يَشفى من الموتِ الدّواءُ
ونختارُ الطبيبَ وهل طبيبٌ
يؤخِّرُ ما يُقَدِّمُهُ القَضاءُ

وفي المستطرف للأبشيهي يقول شاعر:
بالملح نصلح ما نخشى تغيره
فكيف بالملح إن حلت به الغير

وحاشاهم أن يكونوا الغير بل هو العدو الذي حل فيهم مثلما حل في غيرهم لكنهم جعلوا أنفسهم درعا لحياتنا فلقد أعطوا حياتهم للحياة من أرواحهم وما زال بعض الناس القبيحين يزعمون أنهم يفعلون ذلك من أجل المال! إنهم أطباؤنا.
كنت واهما عندما اعتقدت يوما أن عوامل إبداع الكاتب الجيد هي موهبته والخزانة الفكرية وأدواته الأدبية التي يمتلكها، كنت من الخاطئين حينما آمنت بنظرية طبقات الشعراء لابن سلام الجمحي التي تحدث فيها عن جيد الشعر والرديء منه، فالجمحي وضع قواعد للشعر وفصلها على المزاجيات والأهواء وها هو الشعر يحترق تحت نار الإبداع ها هي الموهبة تتهاوى على حافة الموت.. ويا لعجب الكتابة عندما تخون بصاحبها ويا لصبر القلوب عندما ترميك الكلمات على موطن الوجع والانكسار...!
أي حزن هذا والمنقذون الوحيدون من الموت يسقطهم الموت والبيارق الوحيدة التي كانت ملجأ لكل هذا العالم من الأمراض والاسقام يهزمها عدو من دون نزاع أو مواجهة.
أتذكر جيدا عندما أصيب صديق لي وتهشمت عظاما وأضحت شبه رميم حتى أمسى عاجزا عن الوقوف على حيله وانتهى به الأمر إلى أن يكون مقعدا يستنجد بمن حوله لكي يسعفه لقضاء حاجاته.
وقتها لم يستسلم ذلك المريض إلى الأوجاع والهموم التي ألمت به فقد شد رحاله فصال أراضي مشافي العراق من شمالها إلى جنوبها بحثا عن طبيب يداوي همه قبل أن يداوي عظامه المهشمة التي جعلته يتنقل بواسطة (سدية إسعاف) وتحت رحمة من كانوا بقربه من اهله وصديقين مخلصين أهداهما الدهر له. أقولها بفخرٍ كنتُ أنا أحدهما.
ورغم أن التقارير وبعض الآراء التي أشارت إلى فقدان العلاج الا ان ذلك الصديق بقي يطرق أبواب الأطباء هنا وهناك إلى ان وجد ضالته عند أحد أطباء العاصمة العراقية فبغداد مليئة بأطبائها العملاقة، العظماء الكبار حقا حقا..
بغداد تلك التي في كل محنة يكتنفها الخراب ويحيطها الدمار من جهاتها الأربع إلا أنها بقيت عامرة بأطبائها شامخة بقدرتهم على إسعاف كل مريض رام الحياة..
حين يفرط المجتمع البشري بمبدعيه وبأولو الأفضال الذين يدفعون حياتهم كأقل ثمن لوطنهم حينها تفقد البيئة قيمتها الإنسانية وتصبح الأخلاق صفرا في الميزان.
حينما يقرر ذلك الطبيب العراقي العظيم النزول إلى حلبة الميدان من أجل إنقاذ الأرواح التي تتساقط بسبب فتك فيروس قتّال؛ لا يعرف عنه العالم شيئا ولم يتوصل العلم إلى ماهيته وماذا هو؟ أو (من هو) فلم نعدّ نفرق بين العاقل أو غير العاقل وكثيرا ما وصوفوه أنه شبه حي على هامش الحياة، (على هامش الحياة وقتل كل حياتنا)!! مجهول تماما والناس بطبعها تخشى المجهول حتى لو كان مسالما فما بالك لو كان قتّال ومن أين أتى وكيف سيقضى عليه؟!
مع توفر كافة العوامل الخطيرة التي تؤدي إلى الموت والظروف الصعاب والوقت المخيف والامكنة المخيفة والزمان المخيف لا يأبه هؤلاء الأبطال الحقيقيون من أطباء وممرضين وعمال خدمات (الملاكات الصحية بكل صنوفها) من مواجهة هذا الخطر بل إنهم يعلمون أكثر من غيرهم مدى خطورة أن تواجه شيئا انت كطبيب يشد إليك الرحال وقت الأزمة لا تملك الخلاص منه.
ولأنهم أقسموا أثناء حفلة تخرجهم من كليات الطب ونحوها أن يحافظوا على شرف المهنة فهم يدخلون الحرب بلا سلاح. سلاحهم الوحيد (الشرف والإنسانية).
يخوضون المعركة وليس في جعبهم عتادٌ غير تلك الإنسانية والرحمة التي اكتسبوها من أساتذتهم في ست سنوات أيام الدراسة أو من أهاليهم أو فطرتهم ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)) وفطرته تعالى الخير لكن الأشرار يستبدلونها مكتسبين الشر الخسيس.
وأنا أسمع في كل لحظة خبر موت طبيب بسبب بطش هذا الفايروس تذكرت مقطعا شعريا للشاعر نزار قباني يقول فيه:
(هل البطولةُ كِذْبَةٌ عربيةٌ ؟ أم مثلنا التاريخُ كاذبْ)
وددت أن أرد على شاعرنا لو كان حيا فأقول بلسان موجوع يا أبا توفيق ويا أبا هدباء: لم تعد البطولة كذبة ها نحن يا قباني ندخل عصر المراثي والمواجع بصمت مخيف.. ها نحن يا قباني أطباؤنا يقدمون أنفسهم قرابين من أجل البقاء من أجل ولادة تاريخ جديد وحياة جديدة.. ها هم يدركون أن الموت سوف يعتنق أرواحهم العظيمة الحب والعالية كعلو السماء.. لكنهم يدفعون ثمن عنتريات وخراب السلطات التي أقدمت على خراب عراق كان يتوسد العناوين ويرتفع الأسورة.
ها هم شهداؤنا من الأطباء الشرفاء العظماء الأحباء.. أصبحوا كبش فداء لسلطة فاشلة طاغية استكثروا على شعب مقهور مشفى كمشافي البشر في باقي الدول.
ها هم أطباؤنا في ميادين المشافي يواجهون الموت بأم أعينهم ولسان حالهم يقول نموت ونموت عسى ولعل بموتنا ننقذ جيلا من الأطفال لم ترَ أعينهم النور ودواخلهم تعتصر ونفوسهم مختنقة حبا على أطفالهم وأهاليهم لا مختنقة من أثر الفيروس.
أية بطولة تلك التي يقدمها من أطلقوا عليه اسم الجيش الأبيض وهل هناك جيش في العالم خاض معركة مثلهم؟! فأنا أتحدى كل عالم أو عارف وكل مؤرخ أن يأتيني بجيش خالٍ من أي عيب سوى الشرف
وما زال هذا الجيش يقاتل ويصارع من أجل بقاء سلطة غبية جائرة استوت عندها الأنوار والظلم.
ما زالت هذه الجوقة من أطباء الباطنية والصدرية ومختلف الاختصاصات تدفع أرواحها الغالية والتي لا تعوض من أجل أن تبقى حياة على قيد الحياة وأن يبقى وطنا على قيد الوطن وأن يبقى العراق بعض عراق..!
فأية بطولة هذه وأية قصة حرب خالدة ستُكتَب في تاريخ ذاكرة جيل سيأتي. وربما لا يدري أن الانتصار لا يأتي  بالناي والمزمار..!

image image image

آراء من نفس الكاتب


المزيد
image
الرئيسية من نحن الخدمات ارشیف الموسوعة

تنزيل التطبيق

image image

تابعونا على

الأشتراك في القائمة البريدية

Copyright © 2018 Mawazin News Developed by Avesta Group

image

اللائحة

الأقسام