وثائقي "النكبة" أو "حلم هرتزل".. بيان تطبيع تقدمه "العربية" على طبق من فضة

علوم وتكنولوجيا |   11:37 - 02/08/2018


علي رياض
في السينما الغربية، الوثائقية والروائية، التي تتجنب تهم معاداة السامية عبر الغزل بإسرائيل، عادة ما يبدأ الحديث عن ابنة العالم المدللة "إسرائيل"، من محور "معاداة السامية"، وصولاً إلى هولوكوست هتلر، فينطلق المشهد من المظلوم الذي سينتصر له الحق على مظلوميته. الآن صار هذا المنطلق للحديث عن "إسرائيل" منطلق قناة العربية أيضًا.
اختارت العربية اسم "النكبة" عنوانًا لفيلمها الوثائقي المؤلف من جزئين، والذي انتجته شركتا "Arte" و"Roche Productions"، وأُريدَ به، أو هكذا قيل، أن يكون "محايدًا" ومعبرًا عن وجهتي النظر الإسرائيلية والفلسطينية، لكنه كان صهيونيًا بالمطلق.
استند صناع الفيلم إلى كل من الأستاذ الجامعي  المشهور بمواقفه الإشكالية لصالح التطبيع سري نسيبة والكاتب رجا شحاذة، ليؤكدا على فكرة أن العلاقات كانت طيبة بين اليهود والعرب الفلسطينيين تحت الانتداب البريطاني. وربما كان هذا صحيحًا نسبيًا، غير أن ما تغافل عنه الوثائقي بطبيعة حال تبنيه الرواية الصهيونية، أن اليهود كانوا أقلية، كما حال الأقليات في أي مكان بالعالم، وأن من لم يكن مستوطنًا منهم، أي يهود البلاد، لم تكن تشوب العلاقة معه أية شائبة.
وفي سياق تكريسه للرواية الإسرائيلية، يشير الفيلم إلى المستوطنات اليهودية باعتبارها نموذجًا للمجتمعات المثالية. ولم تجد قناة العربية غضاضة في أن تنشر وثائقيًا يؤكد على الرؤية الصهيونية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، إذ جاء فيه: "اعتبر العالم فلسطين أرضًا مهجورة، لا يسكنها أحد على الإطلاق. كانت بلادًا جرداء مليئة بالمستنقعات"، وهذه جملة مؤسسة حرفيًا في الرواية الصهيونية.
غير أنّ المفارقة الساخرة، أنه في ظل ادعاءات الفيلم بخصوص "المجازر العربية" ضد اليهود، يُشير أحد المتحدثين إلى إحصاء سكاني أجرته بريطانيا، نتيجته أنه مقابل كل يهودي في فلسطين، ثمة 80 فلسطينيًا عربيًا. وإن كان الفيلم أراد بذلك إبراز "مظلومية" ما لليهود من جهة، إلا أنه من جهة أخرى نفى بنفسه ما يزعمه من رواية "أرض بلا شعب لشعب لا أرض".
يصل الحديث إلى تنامي الاحتجاج الفلسطيني على حركة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي العربية، لكنه، وأيضًا في إطار التسويق للرواية الإسرائيلية، يصف هذه التحركات التي قادها فلسطينيون من كافة الطبقات الاجتماعية لا سيما المزارعون منهم بـ"الأصوات المعادية للسامية"، ليضعهم رغمًا عنهم في معسكر النازيين، وينسبهم إلى ما لم ينتسبوا له، وهم العربُ الساميّون أصلًا ضاربًا "حياديته" المزعومة عرض الحائط.
بالعودة إلى الحديث بأن العرب واليهود في فترة ما كانوا متجاورين لا تفصل بينهم الفوارق العرقية أو الدينية، تبرز مفارقة أخرى: كيف يصبح هؤلاء العرب ما بين يوم وليلة معادين للسامية.
ثم يعرج الفيلم إلى عقد مقارنة غير مباشرة بين بن غوريون، الذي هو مؤسس عصابات الهاغاناه، والذي سيصبح لاحقاً رئيس الوكالة اليهودية ثم رئيس وزراء إسرائيل، وبين مفتي القدس الشيخ أمين الحسيني. إذ يُوصف بن غوريون بالرجل الساعي للم شتات اليهود وإنقاذهم من "ظلم العالم"، وأيضًا بـ"القائد الشاب الذي تزعم في العشرين من عمره جماعة مسلحة للدفاع عن اليهود الفلسطينيين".
الآن أصبح عصابات الهاغاناه المعروفة بجرمها، "جماعات مسلحة للدفاع عن اليهود الفلسطينيين"، أمّا الحسيني فمرة أخرى بطبيعة الرواية الصهيونية التي نشرتها قناة العربية كاملة، فقد كان "نازيًا".
لكن الحسيني الذي قادت معارضته للتمدد الصهيوني في أرض بلاده فلسطين إلى صدام مع الإنجليز، أدى إلى حل اللجنة العربية العليا التي كان يرأسها، وأقصته من مناصبه كافة تمهيدًا لطرده، كما أدت إلى نفي العديد من رفاقه إلى خارج فلسطين، كان قد تنقل هاربًا من البريطانيين بين لبنان والعراق وإيران ثم إيطاليا، باحثًا عن عون تجاه الوحش الذي لا يتجرأ على معارضته أحد لسبب ما.
فلم يكن أمامه سوى التواصل مع بلدان المحور واللقاء بهتلر، إذ اشترط على الزعيم النازي أن تعترف دول المحور بالاستقلال التام للأقطار العربية المستقلة وقتها، ولتلك التي ما زالت تحت الانتداب أو تحت الحكم البريطاني. وبأن تعلن دول المحور بصورة قاطعة أن ليست لها أية مطامع استعمارية في مصر والسودان، كما طالب بالاعتراف للأقطار العربية بحقها في إقامة الوحدة العربية وفق رغبات أهلها، وبعدم الاعتراف بالوطن القومي اليهودي في فلسطين وتمكين الأمة العربية من إلغاء هذا المشروع. هكذا كان يُفكر الحسيني وإن خانته أحيانًا لعبة السياسة بالتزييف الإسرائيلي.
هذا الرجل ومن شابهه في معارضة قيام الكيان المستعمر وُضعوا في الفيلم تحت مسمى النازية ومعاداة السامية، دون أي خطيئة تسجل على اليهود، سوى مجزرة دير ياسين، والتي تم تناولها في بضع ثوانٍ بأنها كانت "غير محسوبة" و"غير مقصودة".
تنشب الحرب العالمية الثانية، ويقتل ثلث يهود العالم، وهذا الحدث بحسب الوثائقي كان "دافعًا أخلاقيًا" للجميع بضرورة تعويض هؤلاء الناجين من المحرقة بمنحهم بلدًا يلم شتاتهم ويخلصهم من العذاب، ولن يشعر اليهود بالحيرة بحثًا عن مكان لتأسيس هذا البلد، فالصحفي الشاب، الذي يفتتح الوثائقي مشاهده باسمه ويضع صورته غلافًا، أي ثيودور هرتزل، الحالم بوطن لأبناء اليهودية التي تشدد "معاداة السامية" المنتشرة في أوروبا الخناق عليهم، والمؤكِد على عدم منح الكنيس السلطة الحاكمة في دولة اليهود المنتظرة، والذي وجد في فلسطين مكانًا مثاليًا لتقوم فيه؛ حيث يوجد هناك إرث سليمان و"حائط المبكى"، كما يسميه الوثائقي متناسيِا اسمه العربي، أي حائط البراق، هو واسع بما يكفي ليقيم فيه الجميع، عربًا ويهودًا.
تشتد وتيرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، إلى الحد الذي جعل الإنجليز، الذين وعدوا بتأسيس "دولتهم" يقطعون الطريق أمام هذه الهجرة، لتعقد مقارنة جديدة بين معسكرات الألمان النازيين ومعسكرات اعتقال المهاجرين اليهود غير الشرعيين في قبرص بالقول "الفرق أن اليهود في قبرص لا يبادون".
ثم في الجزء الثاني، لا يتطرق الوثائقي إلى الكثير، لكنه يُكرس لأمرين، أولاهما الركون للأمر الواقع بانتفاء قيام الدولة الفلسطينية كما كان يُفترض، وكأنّ الجرائم الإسرائيلية بتهجير الفلسطينيين أو باحتلال الأراضي الفلسطينية هي مجرد تاريخ قد فعلًا، وليس خطًا مستمرًا من الأحداث ذو مخرجات منتظرة أو متغيرة.
الأمر الثاني، كان فيما يخص حرب "نكسة/هزيمة" حزيران/يونيو 1967، إذ استخدم الوثائقي نبرة غير متعارف عليها في الوثائقيات، نبرة محتفلة في الحديث عن "الانتصار الإسرائيلي التام" و"الانتصار الساحق". ويستخدم مصطلحات مثل "توحيد القدس" في الحديث عن احتلال المدينة القديمة، ويُذكر أيضًا أن احتلال الأراضي العربية والذي جعل مساحة إسرائيل تتضاعف إلى خمسة أضعاف كان ذات طابع "رومانسي".
في هذا الجزء تحديدًا بدا الوثائقي صهيونيًا إسرائيليًا بجدارة، من يشاهده من الإسرائيليين حتمًا ستدمع عيناه فرحًا، وستعلوا بداخله مشاعر الحماسة، وكأنه يُشاهد مادة تعبوية من إنتاج الجيش الإسرائيلي. يُذكر أن كل هذا كان يذاع على قناة العربية.
ينتهي الجزء الثاني والأخير من الفلم بتفصيلة السلام، باستحضار صور لتوابيت إسرائيلية أنتجتها الحروب السالفة. هذه الرسالة الذي يؤكدها أول استخدام في الفيلم لمصطلح "احتلال" تبنيًا، ونسبه إلى ما بعد عام 1967، فيضع أمامنا بجهد فني متوسط لم تحمل خزينته الصورية النادرة، المحمول الفني الكبير على الإنتاج؛ خط قناعات الجهات التي تقف خلف قناة العربية تتلخص بأن كل ما قبل 1967 هو حق لليهود بالدولة، وأن إسرائيل دولة، ثم التطرق إلى أن السلام يجب أن يقر وفق هذه المنطلقات.


اخبار ذات الصلة

image image image
image
الرئيسية من نحن الخدمات ارشیف الموسوعة

تنزيل التطبيق

image image

تابعونا على

الأشتراك في القائمة البريدية

Copyright © 2018 Mawazin News Developed by Avesta Group

image

اللائحة

الأقسام