علوم وتكنولوجيا
|
02:52 - 26/07/2018
عبد القادر اياد
مدينة مشوهة
عند بدايات عصر النهضة وجد الأيطاليون أنفسهم في موقف صعب , كانوا يتطلعون
الى أحياء مجد الأمبراطورية الرومانية , بوصفها عاصمة للحضارة الأنسانية , و في
الوقت ذاته كانت الفكرة السائدة بين الأيطالين أن سبب أنحدار حضارتهم هو ما تعرضت
اليه من غزو من قبل القبائل الجرمانية , و ذلك أدى الى أزدراء الفن القوطي في
أيطاليا , لقد كانوا يطالبون بترك الفن القوطي , و أحياء الفن القديم لكن بصورة
عصرية , متجاهلين بأن الفن القوطي كان مرحلة أنتقالية و تراكمية بالنسبة للفن .
أبتداء من الحضارات الأولى لبلاد ما بين النهرين , فأن فن العمارة لم يشهد
تراكماً أو أستمرارية , ولم تكن الحضارة تستفيد من التجارب السابقة للحضارة التي
تسبقها , كما أنها لم تحدث أختلاطاً أو تبادل تجارب مع الحضارات من المناطق الأخرى
من العالم , كانت الحضارة تُدمر معالم و شواخص الحضارة السابقة , مما جعل العمارة
في العراق متقطعة . بأستثناء بعض معالم الحضارة العباسية في العراق , من قصور و
مدارس و جوامع فأن العراق لم يشهد تجارب عمرانية حقيقية منذ سقوط بغداد بيد المغول
, ما عدا بعض معالم الدولة العثمانية من قصور و محاكم و جوامع و دُور حكم , كانت
بغداد في بدايات القرن العشرين مقتصرة على بعض الأزقة و البيوت المتباعدة على ضفتي
دجلة , حتى نشأت الدولة العراقية عام 1921 , وبدأ المشروع العمراني في بغداد بشكل
حقيقي .
بغداد بعد عام 2003 تبدو مختلفة بالنسبة للعمران و كل الجوانب الأخرى , لم
تشهد عاصمة العراق اي مشروع عمراني حقيقي , بل العكس , فقد ظهر أنحداراً في
العمران ومستوى البنيان , مما جعل المدينة تبدو مشوهة , حيث لم تظهر الحكومات المتعاقبة أي نية حقيقية
ببناء اي معلم حضاري , أو بنايات حكومية فضلاً عن الخدمية , لكن يبدو بأن تلك
الحكومات كانت مهتمة بجعل العاصمة تشبه سجن كبير , لاسيما مع وجود الكتل
الكونكريتية الضخمة , التي قسمت العديد من مناطق بغداد , بحجة الوضع الأمني الحرج
, مقسمة المناطق الى قواطع أمنية لكي يسهُل السيطرة عليها , و معززة بذلك التوزيع
الطائفي للمناطق , يُذكر بأن أمانة بغداد أبتدأت حملة واسعة مع بدايات العام 2018
لتخليص المناطق وشوارع بغداد من الكتل الكونكريتة ذات اللون الرمادي الكئيب .
مع دخول القوات الأمريكية لبغداد 2003 , أسقط عدد من الجنود تمثال من
البرونز لصدام حسين , تاركة التمثال الهامد للجماهير المحتشدة في ساحة الفردوس وسط
بغداد , مع الأنفلات الأمني قامت مجموعة مسلحة بأستهداف تمثال لرأس أبو جعفر
المنصور في منطقة المنصور بصاروخ " آر بي جي 7 " , لكن رأس مؤسس مدينة
بغداد بقى صامداً الى يومنا هذا , يبدو بأن العراق قد حصل على طبقة سياسية بعيدة
كل البعد عن الجمال و المعايير الثقافية و الجمالية للمدينة , فلم تظهر الحكومات
أي مبادرة لبناء معلم حضاري أو نُصب لكي يبقى شاهداً و ذكرى على حقبتهم في السلطة
, الاسوء من ذلك لم يكن ببال الحكومات بأن هناك نُصباً و تماثيل ومعالم حضارية
داخل المدينة بحاجة الى أعمال صيانة , حيث مع بدايات العام 2012 تهدد نُصب الحرية
للراحل جواد سليم بسقوط بعض من اجزائه نتيجة للأهمال , و يعد نُصب الحرية و الذي
يقع في منطقة الباب الشرقي في قلب بغداد من أهم المعالم الحضارية و الحداثية في
بغداد , وقد تم أكمال النصب في سنة 1961 , و ليس بعيداً عن نُصب الحرية , تقع
جدارية فائق حسن في ساحة الطيران في نفس المنطقة , وهي لوحة جدارية تشكيلية ,
لافتة بألوانها و تركيبها المتميز من ناحية شخوص الجدارية , تعاني هذه الجدارية من
أهمال واضح , ليس فقط من ناحية الأدامة , لكن أيضاً بكثرة الباعة المتجولين و
تواجد العربات و الأكشاش الصغيرة التي تستظل بظلها في الصيف , ومن ملامح الحداثة
البارزة في بغداد وهي منحوتة من أعمال الفنان ميران السعدي و تسمى " النسور
" وتقع في ساحة سُميت بأسم المنحوتة , مع الكثير من النُصب و التماثيل التي
من أهمال , لأنها ببساطة غير مربحة بالنسبة للسياسين .
مع بدايات العقد الخامس من القرن العشرين , و أنتشار الأتجاهات
الأيديولوجية مثل الأشتراكية و الشيوعية شهد العراق تأثراً واضحاً بتلك الأتجاهات
و متأثراً بالثقافات الشرقية و الغربية , برز عدد من المعماريين و الفنانين الذي
كان تأثيرهم واضحاً على المجال العمراني في بغداد مثل محمد مكية و محمد غني حكمت و
جواد سليم و رفعت الجادرجي , هذا الأخير أسس مع عدد من المعماريين عام 1952 (
المكتب الأستشاري العراقي ) والذي مارس من خلاله رفعت أفكاره للعديد من المباني ,
و في هذه الفترة ظهرت ملامح تأثر رفعت الجادرجي بالحداثة , خصوصاً أن بغداد كانت
تشهد حداثة في قالب ثقافي و فني بغية جعل بغداد مدينة من القرن العشرين , لكن عند
النظر الى بغداد الأن فأن عدداً كبيراً من مبانيها تبدو مثل عُلب صفيح خالية من أي
دلالات تعبيرية يمكنها أن تؤدي دوراً جمالياً ضمن المشهد البصري , خصوصاً مع تغليف
واجهات الأبنية الحكومية والأهلية بمادة " اليكوبون " النحاسية , و تقسيم عدداً من البيوت الى بيوتات صغيرة ,
مشوهة بذلك الشكل العمراني للمدينة , و أخيراً طغيان المد الريفي و التوسع الحضري
الغير مدروس الذي جعل مشهد المينة العمراني مرتبكاً , مثل الحياة التي يعيشها
الفرد في العراق .
قرية داخل المدينة
ندخلُ الى القرية من الجنوب الغربي , شارع رئيس واحد ممتمد على طول 500 متر
, وهو بالطبع شارع ترابي متعرج , يشق الشارع عن شارع ثاني يبدو مهملاً , جدول ماء
صغير لا يتجاوز عرضه متراً واحد , وبعمق خفيض , وقد نمى على طولهِ قصب أصفر , و في
أغلب جهاتهِ تكدست نفايات أهالي القرية , على الجانب الأيسر من دخولنا نشاهد محلات
تجارية تحاول بفشل تقليد محلات المناطق المجاورة , على الجانب الأيمن من الشارع
ومن الجدول المائي , هناك بيوت مرصوفة بشكل مبعثر , بيوت طينية , وأخرى بُنيت
بطابوق أصفر , بيوت أخرى بقيت جدرانها عارية , بلون رمادي داكن مائل للخضرة ,
الوان غير متناسقة و كئيبة , و للمفارقة كانت تقفُ عند عتبات المنازل سيارات
بموديلات ومناشئ حديثة , متجاوزة سيارات أهل المدينة , نكمل الشارع القصير لمدخل
القرية , تنفتحُ على نظرنا , مساحات مفتوحة , بيوت ومزارع مبعثرة وغير منتظمة ,
الأرض تحت أطارات السيارة قاسية , و لا تصلح الى بمسير السيارات الكبيرة , كانت
المنطقة أرض جرداء الا من بيوت قليلة تُحصى على أصابع اليد في الماضي القريب جداً
, لكننا الان نشاهد البيوت الكثيرة , البيوت الأخرى التي ما زالت تُبنى داخل
القرية , عندما كنتُ أقوم برحلات خارج بغداد مع جدي قبل عام 2003 , كنت أرى
المساحات الهائلة التي زُرعت بالنخيل , النخيل الرشيق ذو السعف الأخضر اللامع ,
لكن نخيلات قليلة زُرعت على أرض هذه القرية , يبدو بأن النخيل أصبح منسي على هذه
الأرض .
للقرية شوارع غير منتظمة , فهي
تمتدُ بكل الأتجاهات بشكل مبعثر , و بشوارع لا تصلح بمسير السيارات الصغيرة عليها
, نشاهدُ على جوانب الطريق , وفي الأراضي التي تبدو بأنها ليست ملك لأحد برك ماء ,
يقال بأن هذه الأراضي غير صالحة للزراعة , أنا أستبعد ذلك , في معظم الأراضي نمى
نبات دون تدخل بشري , وأصبح الأهالي يقدموه غذائاً لحيواناتهم , أسم القرية هو
" الدسيم " وهو على أسم قرية في الكوت جنوبي بغداد , أغلب أسماء المناطق والقرى داخل المدينة هي
اسماء سُميت على تسميات قُرى موجودة بالفعل في محافظات جنوب العراق , أعتقد بأن
الحنين هو ما فعل ذلك , بعد أن هجر أهالي القرى الجنوبية أراضيهم الطينية الخصبة ,
بسبب الظروف المعيشية الصعبة , وقلة الأهتمام بالجانب الزراعي في العراق , أنتقل
السكان خصوصاً بعد 2003 الى شراء مناطق غير نظامية وغير مشمولة ب
"الطابو" السكني للمدينة , لرخص الأسعار , و الدولة الضعيفة , لقد
أقاموا بيوتاً و مزارع صغيرة , أصبحت المناطق العشوائية تتوسع بشكل لافت داخل
المدينة , أصبح الوضع حرجاً بالنسبة للدولة , في العامين الماضيين أصبحت هناك
جهوداً جادة من قبل الحكومة , بغية تنظيم تلك المناطق و الوصول الى حل يُليق بهيبة
المدينة , أعلنت أمانة بغداد في بداية عام 2018 بأنها ستطبق حملة لرفع التجاوزات
داخل المدينة و التقليل من المناطق العشوائية الغير نظامية , وفي شهرحزيران أعلنت
الأمانة بأنها رفعت ما يقارب 13 الف تجاوز بين محلات و أكشاك و منازل غير نظامية
داخل العاصمة .
ندخلُ أخيراً الى المزرعة الصغيرة التي هي ملك زراعي لصديقي , ثمة صمت مهيب
, صمت لم تعتاد أذناي على سماعه , لم أحظى منذ زمن بعيد بمثل هذا الهدوء , درجة
الحرارة تقارب 45 مئوية , المزرعة صغيرة , وهي غير منتجة للمحاصيل الزراعية ,
وتعاني من ملوحة في الأرض و نقص بالمياه , الشجيرات مزروعة بشكل غير منتظم ,
المواشي وضعت بالجانب الآخر من المزرعة , تحيط المزرعة من الجهة الخلفية تل ممتد و
هو ما يُعرف عند سكان بغداد بمسمى " السدة " , في الجانب الآخر من
" السدة " تقع منطقة " الحميدية " وهي قرية أكثر منها منطقة
سكنية , أيضاً هي منطقة تُحسب على مناطق التجاوز , شهدت هذه المناطق في فترة
الأقتتال الطائفي , تغيراً ديموغرافية للسكان , فالمناطق كان يسكنها ضباط في الجيش
السابق , كانوا عرضة للملاحقة من قبل الجهات المسلحة , و " السدة " وهي
تلة ترابية كانت تمتد من منطقة الزعفرانية جنوب بغداد الى منطقة الصليخ , أنشأت
لغرض حماية بغداد من فيضان نهر دجلة في مواسم الفيضان الذي كان يحدثُ غالباً في
شهر نيسان , أصبحت " السدة " في فترة الاقتتال الطائفي مكان و أسماً
مفزعاً لسكان مدينة بغداد , ولكل مواطن بغدادي قصة قد سمعها عن ما يعرف خلف "
السدة ", أستلقي على أريكة قد وضعت تحت شجرة عالية , أغمض عيني متأملاً ,
أستمع لصوت أغصان الشجيرات , الريح و هي تمرُ مسرعة .
نقرر الخروج من القرية , أنها الظهيرة , شمس بغداد لا تطاق في شهر تموز ,
يقول صديقي بأننا سنعود من طريق أخر , لكي يريني منطقة الحميدية , هي أيضاً لا
تختلف عن قرية " الدسيم " مزارع صغيرة غير منتظمة , جدول لصرف مياه
المجاري , نفايات متكدسة مثل تلال , نمر بالقرب من محطة أيرانية لتوليد الطاقة
الكهربائية , بُنيت بالقرب من المنازل , ام أن المنازل هي بُنيت قربها ؟ في الشارع
وبالقرب من المنازل تنتصبُ عالياً عوميد الكهرباء الكبيرة و التي يُمنع بناء منازل
بالقرب منها , لكنني رأيت أطفالاً يلعبون بالمعدن المثبت عميقاً في الأرض , نصل
الى تقاطع الطرق , بين العودة الى قلب العاصمة وبين الشارع الذي يُسمى "
الطريق السياحي " الذي يربط بغداد بمحافظة ديالى مروراً بمنطقة الحسينية و
خان بني سعد , القي نظرة أخيرة على هذه الفوضى وأعود .
اخبار ذات الصلة