استخدِمها كما تشاء دون أن تدفع شيئاً.. الباصات المجانية تُحدث ثورة بمدينة فرنسية

علوم وتكنولوجيا |   01:36 - 21/10/2018


متابعة- موازين نيوز
«أنا أركب الباص أحياناً من أجل التسلية فقط»، هكذا قالت سيدة فرنسية وهي تثرثر مع امرأة أخرى لم تعرفها من قبل، ولكن كلتاهما كانت مستفيدة من خدمة الباصات المجانية الجديدة.
 فقد مضى شهر على إطلاق مدينة دنكيرك الفرنسية، المطلة على القنال الفاصل بين فرنسا وبريطانيا، لنظام مواصلات عمومي مجاني للجميع، وها هي ثورة صغيرة تتشكل هناك وتغير ملامح المدينة، بحسب ما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
فهاتان الامرأتان الغريبتان كلياً عن بعضهما حتى تلك اللحظة، دخلتا في حوار، وقد جلست كل واحدة على جهة من ممر الحافلة.
في حين أن هناك شاباً في الحافلة، يضع في أذنه سماعات ويشحن هاتفه الخليوي من مقبس كهربائي فوق زر «طلب التوقف».
نعم لقد وفَّرت معاشي التقاعدي ولكن عليَّ الآن تفادي الزحام
على متن حافلة أخرى تجلس كلود بوانتار ذات الـ65 عاماً، تقول إن الباصات المجانية معناها أن راتبها التقاعدي سوف يغطيها لفترة أطول، وتجعلني أدَّخر المال.
وتضيف: «الباصات المجانية تأتي كل 10 دقائق، فلا أضطر للانتظار طويلاً، لكن عدد الناس الذين يستقلون الباص قد زاد، لذا عليك تفادي ساعة الازدحام إن كنت تريد أن تحظى بمقعد للجلوس، مع ذلك ما زلت أرى أنه شيء جيد».
حافلة أخرى تجوب المدينة التاريخية ذات الميناء، يصعد الركاب ويحيون السائق بابتسامة بشوشة مع تحية «بونجور». فحتى سلوكيات الناس قد تغيّرت بعد تطبيق نظام الباصات المجانية.
ويخططون لاستضافة مشاهير على متنها إضافة إلى تنظيم مناقشات وجلسات موسيقية
بعض الباصات المجانية في أسطول المدينة الجديد طُليت بألوان زاهية كالورديّ والبرتقالي والأخضر والأصفر والأزرق، وبتنجيد مماثل في اللون.
كما جُهِّزت الباصات المجانية بخدمة واي فاي للإنترنت متاحة للركاب.
وتنوي الهيئة المحلية للتخطيط المدني بالمدينة، أن تنظم على متن الباصات المجانية جولات مناقشة، وجدلاً عقلانياً، فضلاً عن استضافة فرق عازفي موسيقى، بل ربما استضافة شخصيات من المشاهير بين الحين والآخر.
كما توجد بين الباصات المجانية «حافلة رياضية» بها لعبة تفاعلية وشاشة لخوض أسئلة اختبارات معلومات عامة، فضلاً عن كاميرا لالتقاط صور السيلفي.
والنتيجة أن البعض بدأ يستخدم المواصلات العامة لأول مرة في حياته بفضل الباصات المجانية
يقول جورج كونتامين، المواطن البالغ من العمر 51 عاماً، أنه منذ حملة  الباصات المجانية أعاد النظر في أسلوبه في التنقل حول المدينة.
يقول: «من قبل لم أكن أستقل الباص قط، ولكن الباصات المجانية، وازدياد تكلفة وقود السيارات جعلاني أعيد النظر في طريقة تنقلي».
 في محطة الباص المواجهة للميناء تقف ماري مشتعلة حماسة، لا يطفئها لا رذاذ المطر المستمر، ولا الرياح العاصفة التي ترتعد أمامها الزوارق في البحر.
تقول ماري: «لم يسبق أن استعملت الباص من قبل، فقد كان الحصول على التذاكر أو بطاقة الصعود أمراً أستثقله». «أما الآن أصبحت أترك السيارة في البيت وآخذ الباص من وإلى مكان عملي. إنه أمر سهل جداً»، حسب وصفها.
إنها مجانية للجميع وفي كل الوقت ودون تذاكر
قبل شهر أصبحت مدينة دنكيرك التي يبلغ عدد سكانها 200 ألف نسمة أكبر مدينة في أوروبا توفر مواصلات عمومية مجانية.
ليس في المدينة خطوط ترامواي أو حافلات ترولي كهربائية ولا قطارات داخلية لنقل الموظفين.
بل كل ما فيها هو الحافلات التي تستقلها صعوداً وهبوطاً بكل يسر.
وغدت الآن الباصات مجانية متاحة للجميع، دون حاجة لشراء تذاكر ولا بطاقات صعود ولا مصاريف اشتراك بكروت، بل الركوب مجاني لكل الركاب وحتى للزوار.
رغم أن هناك مدناً سبقت دنكيرك، فإنها كانت قد وضعت شروطاً
استلهمت فكرة نظام المواصلات هذه من العاصمة الإستونية تالين الجمهورية السوفيتية الواقعة على بحر البلطيق والعضو حالياً بالاتحاد الأوروبي.
فهذه المدنية أصبحت عام 2013 أول مدينة أوروبية تقدِّم خدمة مواصلات مجانية على باصاتها وخطوط الترامواي وحافلات الترولي.
ولكن الخدمة اقتصرت فقط على المقيمين المسجلين في البلدية، فهم يدفعون 2 يورو لقاء «بطاقة خضراء» تصبح جميع التنقلات من بعدها مجانية.
وقد سجلت تالين ارتفاعاً في أعداد المقيمين المسجلين فيها بمقدار 25 ألفاً، حيث كان الرقم سابقاً قد ثبت عند 416 ألفاً، تتقاضى السلطات المحلية عن كل منهم مبلغ ألف يورو على صيغة ضريبة دخل سنوية.
فهي فكرة تتوسع على مستوى العالم
فكرة المواصلات العمومية المجانية آخذة في الانتشار، حسب تقرير الصحيفة البريطانية. ففي أبحاثه خلص ووتشيك كيبلوسكي، الخبير في أبحاث التخطيط المدني بجامعة بروكسل ببلجيكا، إلى أنه في عام 2016 كانت هناك 107 شبكات مواصلات عمومية مجانية حول العالم.
منها 67 في أوروبا (و30 منها في فرنسا وحدها) و25 في أميركا الشمالية، و11 في أميركا الجنوبية، و3 في آسيا، وواحدة في أستراليا.
ولكن العديد من هذه الشبكات تعد أصغر من تلك التي في دنكيرك، وتقدم تنقلاً مجانياً محدوداً في أوقات، وخطوط، ولأناس معينين.
الافت أن ألمانيا تراجعت عنها بينما الصين تتصدر المشهد
في شباط من هذا العام 2018، أعلنت ألمانيا أنها تخطط لتجربة أنظمة مواصلات عامة مجانية في 5 مدن، منها العاصمة السابقة بون والمدينتان الصناعيتان إيسن ومانهايم.
لكن هذا الإعلان تم تخفيضه في حزيران 2018، إلى مجرد حسومات تقلل من أسعار تعرفة التنقل العام بُغية إغراء الناس بترك السيارات.
أما أكبر شبكة مواصلات مجانية في العالم فهي تقع في تشانغ نينغ الصينية بمقاطعة هونان، التي ابتدأ العمل بنظام نقلها المجاني منذ عام 2008، حيث شهد أول أيام تطبيق الخدمة المجانية زيادة في أعداد الركاب بمقدار 60%.
وهؤلاء أكثر الفئات استفادة من الباصات المجانية
«إنها تزيد من تحرك كبار وصغار السن وتزيد من الشعور بالحرية».
هذا ما خلُصت إليه دراسة أجرتها مجلة الإنترنت Metropoliticsعلى أنظمة المواصلات العامة المجانية.
وقبل عام أطلقت مدينة نيور (غرب فرنسا) خدمة الباصات المجانية لسكانها الـ125 ألفاً.
وتقول سلطات المدينة إن أعداد الركاب زادت 130% على بعض الخطوط.
ومثل دنكيرك كانت بلدية نيور تجني من تعرفة المواصلات نحو 10% فقط من مدخولها.
وعمدة دنكيرك يعتبر أن الباصات المجانية حققت نجاحاً كبيراً
الآن وبعد شهر من بدء تطبيق الحافلات المجانية، يقول باتريس فيرغرييت، عمدة دنكيرك الذي كان قد وعد بالمواصلات المجانية في حملته الانتخابية عام 2014، إن هذا المشروع شهد نجاحاً منقطع النظير.
 فأعداد الركاب زادت 50% في بعض الخطوط، وبمقدار 85% في خطوط أخرى، حسبما يقول.
ويجلس فيرغرييت في مكتبه الفسيح تحت لوحة لنيلسون مانديلا.
 ويزعم أن هذا المشروع هو إجراء مضمون الربح لمدينته (مسقط رأسه) التي كانت في السابق تشهد تنقلات مرورية بالسيارة بنسبة 65%، مقابل 5% فقط للباصات، فيما 1% من الناس فقط يتنقلون بالدراجات الهوائية، أما الـ29% الباقين فسيراً على الأقدام.
يقول فيرغرييت: «موضوع المواصلات العامة المجانية عقائدي جداً ومليء بالتحيز وينقصه البحث».
و»تشير هذه العقيدة إلى أن الشيء إن كان مجانياً فلا قيمة له، وهذا ما نسمعه طيلة الوقت في فرنسا»، حسب قوله
ولكن كيف عوضت البلدية الأموال التي خسرتها من مجانية المواصلات؟
«المال هو مصدر الإزعاج الواضح»، حسبما يقول عمدة المدينة.
فقبل مجانية الباصات شكلت أسعار التذاكر 10% من تكاليف تشغيل الشبكة السنوية والبالغة 47 مليون يورو.
كما جاء 60% تكلفة الشبكة مما يُعرف باسم versement transport، وهي ضريبة مواصلات فرنسية تجبى من الشركات والجهات العمومية التي بها أكثر من 11 موظفاً، فيما كان 30% يأتي من السلطات المحلية.
يقول فيرغرييت إن زيادة ضريبة مواصلات الشركات سدت الفجوة في أسعار التعرفة، فما عادت ثمة حاجة لفرض زيادة ضريبية على البيوت المحلية.
ومن هذه المصادر عوَّضت البلدية معظم الخسائر الناتجة عن التعرفة المجانية.
والخدمة أصبحت أفضل وأكثر صداقة للبيئة
تم توسيع خطوط الباصات وخصصت حارات طرقية لها، فضلاً عن إعطائها أولوية مرورية وسط المدينة.
أما أسطولها فزاد من 100 إلى 140 حافلة بعد تطبيق خدمة الباصات المجانية، منها مركبات أكثر صداقة للبيئة تسير بالغاز الطبيعي.
يقول فيرغرييت: «لقد أدهشتنا زيادة أعداد الركاب منذ تطبيق نظام الباصات المجانية».
وأضاف قائلا «الآن علينا الاحتفاظ بهذه الزيادة، فنحن نحاول جعل الناس ينظرون إلى الباصات بطريقة مختلفة».
والناس باتوا يتعاملون بشكل أفضل مع الباصات بعد أن أصبحت مجانية
«لقد أرجعنا الباصات إلى وسائل النقل في عقول الناس، وهذا غيّر من طريقة سلوكهم». حسب ما يقول عمدة المدينة.
«فمن قبل عند الدفع كانت تلك خدمة وكانوا هم الزبائن. لعلهم كانوا يسهمون بـ10% فقط من تكاليف تشغيل الخدمة، لكنهم كانوا يرونها ملكهم»، وفق قوله.
«أما الآن فقد غدت خدمة عمومية ينظرون إليها بشكل مختلف، فهم يقولون «بونجور» للسائق، ويتحدثون إلى بعضهم البعض.
إننا نعمل على تغيير النظرة وعلى تغيير المدينة نحو أسلوب حياة جماعي. إننا نعيد خلق الفضاء العمومي»، حسب تعبيره.
وتابع: «من قبل كان الباص لمن لا خيار آخر أمامه، أي للصغار والمسنين والفقراء الذين لا يملكون سيارات، أما الآن فهو للجميع».
ولكن البعض يرى أنها قد تؤدي إلى قلة احترام المواصلات
غير أن المواصلات العامة المجانية لها نقادها في فرنسا.
 فاتحاد المواصلات الفرنسية UTP يعتقد أن المواصلات المجانية عادة ما «ترتبط في فرنسا بقلة القيمة، وبالتالي بقلة الاحترام».
ويقول كلود فوشير من UTP: «على المواصلات أن تكون مجانية للركاب الذين يعانون من مصاعب مادية، فهذا يمكن تسويغه.
«أما جعلها مجانية تماماً لكل المستخدمين ففي رأينا أن هذا سيحرم المواصلات العامة من موارد مفيدة ومهمة للتطوير»، وفق فوشير.
كما أن هذه الفكرة قد تكون مُضرّة للبيئة على عكس ما يريد مؤيدوها
دخل باريس من مبيعات تذاكر المواصلات العامة يغطي نصف تكاليف تشغيل شبكة المواصلات، حسب التقارير.
وعندما اقترحت عمدة المدينة آن هيدالغو أن تنظر في شطب أسعار تعرفة المواصلات، قال الخبير الاقتصادي في أسعار المواصلات فريديريك هيران إن الخطوة «لا معنى لها».
فقد طرح هيران التساؤل التالي: «من سيكون مستخدمو نظام المواصلات العامة الجدد؟
وقال: «كل الدراسات تشير إلى أن مستخدمي المواصلات الجُدد سيكونون سائقي الدراجات والمشاة والقليل من سائقي المركبات، وهذا دليل على أن الخطوة هي ضد ركوب الدراجات وضد المشي (وسائل غير مضرة بالبيئة) وليست مشجعة جداً على ترك السيارات».
ويرد فيرغرييت قائلاً: «إن كل هذا جزء من عقيدة خاطئة كنا نتلقنها دوماً». فمع أنه يعترف بأن المواصلات العامة المجانية لاسيما الباصات المجانية، قد لا تنجح في كل مكان إلا أنه يرى إلى جانب صداقتها للبيئة أنها خطوة اجتماعية وعربون «تكافل» يعزز إعادة توزيع عادل للثروة بدلاً من خفض الضرائب.
ويقول: «لقد كنا براغماتيين، ننظر إلى محاسن النقل المجاني ونزنها أمام المثالب، ثم قررنا أن 7 ملايين يورو ليست مبلغاً كبيراً ندفعه للحصول على كل هذه الفوائد.
وأضاف العمدة: «لو أمكنني أن أوصل رسالة لعمد بقية المدن فهي: دعونا نحارب تلك العقيدة، ضعوا المحاسن والسلبيات على المنضدة وزنوها بعقلانية».
ويختتم قائلاً: «لعل الكلفة المادية عالية جداً، لكن لا تستهينوا بالإيجابيات الاجتماعية، فحرية الحركة والعدالة الاجتماعية لا يقدران بثمن».انتهى29/ع


اخبار ذات الصلة

image image image
image
الرئيسية من نحن الخدمات ارشیف الموسوعة

تنزيل التطبيق

image image

تابعونا على

الأشتراك في القائمة البريدية

Copyright © 2018 Mawazin News Developed by Avesta Group

image

اللائحة

الأقسام