اكليل الموسيقى الذي نثره الحطاب على خرابنا المزمن

علوم وتكنولوجيا |   10:06 - 13/09/2018


اكليل الموسيقى الذي نثره الحطاب على خرابنا المزمن

د. علي حداد

نالت تجربة الشاعرجواد الحطابالشعرية شهادات كثيرة ومن مختلف آفاق تلقي الإبداع وأسمائه البارزة ، ولاسيما تلك التي سايرت هذه التجربة اللافتة وتأملت خصوصيات متحققها المعرفي والجمالي المتصاعد بتمايزه والمرسخ لقيمه بين مجموعة شعرية وأخرى ، تجاوزت حتى الآن خمس مجاميع عدداً. ومن هنا فربما لا تستطيع أية شهادة جديدة إلا أن تبدي خشيتها من الوقوع في القول (المنصوص عليه) قبلها. وهو أمر لا يمكن مجافاته بسهولة  ، ولكنه لا يقف بوجه التلقي المقارب لهذه التجربة الشعرية المثيرة ، والجديرة بالذي قيل فيها كله وفوقه ماسيأتي لاحقاً .

وإذ نقف في هذه القراءة عند مجموعته (إكليل موسيقى على جثة بيانو) التي صدرت بطبعتين في خلال الأعوام (2009ـ 2011) ، فإن ما نسعى إليه ـ جاهدين ـ هو أن نغادر انشدادنا الشخصي المبتهج بهذه التجربة وصاحبها ،  وأن نحيّد إعجابنا بفتنتها الدلالية الآسرة ، والذكاء التعبيري الذي يتخير له الشاعر فيها أقصى مكنونات التعبير الشاغل ببساطته وعمقه وتلاعبه بأفق تلقينا ، وأن يذهب جهدنا نحو تلمس ذلك البعد ـ بل الأبعاد ـ الفكرية المؤطرة بوعي ثقافي ـ الذي استقرى الحطاب من خلاله الكثير من الوقائع وأعاد انتاجها في مساحة من اليقين الباذخ الكبرياء الذي يعايش قضايا الوطن وأهله ولا يفرط  بها  في مهرجانات البهاليل التي تتراكم ادعاءاتها من حولنا لتخلط أوراق الوعي بكثير من الزيف والإدعاء والإنهيار القيمي .
ولأن تجربة جواد الحطاب الشعرية ـ كحال أية تجربة ناضجة ومتخلقة بمستوى عال من الوعي والجمال ـ تمتلك ما يهيأ لأفق التلقي مرتكزات متعددة للتأمل والقراءة ، فإننا سنتخير منها مانظنه الأكثر تردداً فيها ، منطلقين من اليقين في أنها تكيفت فيه وأعلنت عن تشخصها التعبيري من خلاله .


أس الإنهماك النصي
يطيل نص الحطاب تدبره الواعي للواقعة اليومية ولاسيما تلك التي تزاحمت فيها المآسي ودورات الخراب التي ابتلي العراق بها ، فيشتغل عليها طويلاً ، ويحيلها إلى تجربة جمالية نابضة بالبوح والشجن والإثارة .
وهذه الوجهة من الإنهماك النصي هي أس ما أقام عليها الحطاب تجربته الشعرية منذ بداياتها الأولى ، ولعلها قد تعمقت من خلال المعايشة المهمومة بوقائع الحرب العراقية الإيرانية التي انتجت لدى الحطاب في حينه كتاباته التسجيلية التي أدرجت لاحقاً في كتابه المبكر واللافت للإهتمام في وثائقيته ، ورصده الحميم ، ولغته المفعمة بالعاطفة (إنه الوطن .. إنه القلب ـ بغداد 1981) ، لتأتي بعد ذلك انشغالات حياتية وإبداعية  انهمكت بمجالدة وقائع الحصار والحروب التي أثخنت الذاكرة العراقية بالحزن والأسى والتوجس الذي لاينتهي ، حتى تدحرج كرتنا القدرية أخيراً مفجوعة بالإحتلال وما لحق به من إفرازات موت ودمار وخراب قيمي مخيف .
وكغيره من شعراء العراق ـ ولا سيما من كابد هذه المراحل عياناً ـ فقد جعل الحطاب ذلك كله رصيداً (موضوعاتياً) لا يباشر مكابدته التعبيرية إلا بأقصى درجات الكشف والتأثيث الجمالي المنتزع من قوة فعل الواقعة ذاتها ، وهو يتماس معها إنسانياً ، وينفعل لها وبها إبداعياً ، ليعيد انتاجها عبر التكيف الشعوري البعيد في تمثلها والبسيط في الآن نفسه . تتراصف مع مامرّ ذكره تلك المثاقفة العالية التي يمتلكها نص جواد الحطاب مع الواقعة التاريخية بأحداثها وأسمائها وتفصيلات ما أعلنت عنه . ولكن الحطاب لايلتمس منطوقها المباشر و(يتناص معه) ، ولايراكمه كقيمة اعتبارية تؤيد وجهة النص ويدعمه بتصورات قابلة للإزاحة ، فكأنها هي من يلوذ بأنساق النص ويتفاعل معها ، وينفعل بها ، ليعيد تشكيل نفسه في ذاكرة تعبيرية معاصرة.إنها لا تأتي لتتنفس حضورها الشاخص فيها بقدر ما تصنع متناً يجادل الشاعر مستقره الدلالي ويفككه ويعيد انتاجه بوقائعية أخرى ، وإن بدت مفترضة ، هكذا سنجده يخاطب المتنبي في أحد حواراته معه :
لو كان ابن أبي طالب
قد مدّ يديه إلى العباس
لو أن الكوفة لم تتخاذل
عن ابن عقيل
لو أن سليمان
تجاهل أمر أبي هاشم
لو أن أبا مسلم
لم يتشيع لابراهيم
لو صدق السفاح ..
لو تمت بيعة ابن عبد الله محمد
ولو أن المنصور ...
هل كنت ستنشد من أجل إمارة ؟!
بل إنه ليعطي لمتنه التعبيري المتمنى فرصة أن يقوم باستدعاء ما تلجلج في البعد الشعوري للذات التأريخية المستدرجة إلى نصه ، كذات المتنبي في هذا النص، وهو يلقي بمدائحه إزاء من لايستحقها ، ليماهي بينه وبعض مدلولات الحاضر ، فيجعله  فعلاً متمنى لكليهما ـ الحطاب وقبله المتنبي ـ وهما يتأملان أولئك الساسة الأدعياء من حولهما:
 لو كنت مكان المتنبي
 لوضعت الأمراء جميعاً
في الحماموسحبت  (السيفون)
ط..
و..
ي ..
لا.
 إنه غالباً مايدس متنه الشعوري المعلن في ثنايا الواقعة التاريخية المستعادة ، فيهيل عليها بعضاً من لمسات الراهن ممعناً في تشكيل سخريته :
يقول الصاحب بن عبّاد
كان المتنبي
مذيعاً في ) tv) الحمدانيين ...
وتهكم
(مختصاً ببيانات الحرب على بيزنطة)
ولعله مما يسهل رصده أن الحطاب يتخير كثيراً الواقعة التاريخية التي تنضح بانكسار قيمي ، أو تؤشر فعلاً كانت سلبيته هي التي أبقته يتردد في الذاكرة الجمعية  العراقية  . وهو يسعى إلى تكييفها لتتماهى مع النسق الموضوعاتي ووجهة السخرية ذاتها الذي تجاهر به الواقعة الراهنة التي تحمل التوصيف ذاته  ، حيث يراكمهما  الشاعر ، ويدعهما ينضحان في إناء دلالي واحد عنده .



ثماثل عصري
 في وجهة السخرية المعلنة عن قيمها في نص الحطاب مايمكن تبنيه مجساً لتداول كثير من مستويات التعبير التي اشتغلت عليها نصوصه ، مجسدة فاعلية أداء مثير حتى حين تتماهى مع الواقعة الراهنة ـ وهي تتشكل بصوت جمعي ـ بجسد الواقعة الماضوية المستعادة  التي ـ تبدت من خلال حدث فردي ـ ليتماثلا معاً،ولكن بتوجيه عصري :
لما جنّ علينا القصف
رأينا طائرة ...
قلنا : هو ذا الرب
فلما ضربتنا
قلنا : نحن براء
حاشا أن ينزل فينا الرب
كتاب قنابله
...
...
شاهدنا الجنرالات
يضعون بشرج التمثال
قطعة نقد
فيقدم شعباً ـ مقصوفاًـ بالسلوفان
...
وهكذا فإن الحطاب يقارب الواقعة ـ سواء التأريخية المستعادة أو الراهنة الشاخصة بإزائنا ـ ولكنه يحيلها بخبرته المندسة بعيداً في طياتها إلى متن من التشكيل التعبيري  الذي يستجلب له منها مايصنع شعريتها وسخريتها وعمقها المثير في الآن نفسه. وتلك الخبرة في مجادلة الواقعة والكشف عن مخبوئها مما تهيأ للحطاب أن يتقنه ومنذ مراحل متقدمة من تجربته الإنسانية والإبداعية كما مرت الإشارة إليه .  وربما قادته تلك النزعة التي لاتخشى العواقب ، ولاما يمكن أن يصيبها من شواظ الرعونة التي تترصدها ،إلى نوع من السخرية الجارحة التي لاتبدو قيمة مفارقة لانشدادها التعبيري الذي تقصده، حتى في الشكل الذي بدا تلاحق كلماته مفردة بعد أخرى اشبه بسقوط حجارة متلاحقة :
أثق
بعاهرة
لها
نظرة
زعيم
ولا
أثق
بزعيم
له
نظرة عاهرة ...


طفولة تعبير مشاكسة
كلما قرأت لجواد الحطاب شيئاً من كتاباته تبدت لي صورة لطفولة تعبيرية ذكية ومشاكسة ، يندّ في متقولها طفل كبير، يحمل  ذكاءه وشقاوته ونزقه الذي كبر معه  :
من ينقذني الليلة
من بلطة طفل مجنون
يتمرد في أعماقي الآن ؟!
هكذا تصبح الطفولة واحدة من المداخل التي يمكن قراءة تجربة الحطاب من خلالها. ولم لا، والحطاب من بين مجموعة متميزة من شعراء جيله كانت الطفولة قد أوقفتهم عند أعتابها، فكتب لها من الشعر مجموعته (ياقمراً في البصرة ـ1982) ، ومن السرد (تلال يغسلها الصباح ـ 1983).
وعبر مسار تجربته الشعرية بدت الطفولة عنده من المنافذ التي يسرب من خلالها كثيراً مما يكمن في حيز الإنشداد الى الذات ـ ذات الشاعر ـ التي يطلق الحطاب يدها لتقول ـ من خلال هذه الوجهة وسواها ـ ماتراكم في وعيه ـ ولاوعيه كذلك ـ من رغبات ومشاعر وتخير تعبيري وجمالي تمكنت ذاته في مدركها الثقافي العالي منه .
وكسابقاتها من مجموعات الشاعر السابقة فقد تكرست الطفولة ـ في مجموعته الشعرية هذه ـ بعداً لاغنى عنه في نصوص كثيرة عنده.سواء وهي تمتاح من مخيال طفل :
( ... أمي
ـ الملائكة أكثر أم الطائرات ؟
ـ الملائكة طبعاً
ـ ألم تقولي : ملاكان على كتفيك؟
ـ هذا صحيح
ـ لكني أرى فوق رأسي
عشرات الطائرات
فكيف ..؟! )
أو حين تأتي استعادات ترميزية لما تستمده من موروثها الذي تماهيه مع سخريتها المعهودة  مع جسد الوقائع الراهن :
لاترفعوا صور الأطفال أمام الكاميرات
الألبومات ليست قرائين
والمارينز ليسوا جنود علي ...
وهي ترتقي بمتفوهها الشعوري لتستثمر مدركات الطفولة التي اختلط عليها كل شيء في متاهات الإحتلال الأمريكي ، حيث يرصد الحطاب كثيراً من تفصيلاتها عبر متن يرسخ واقعيته بمسماها ، وهي تتحدث عن أطفال ملجأ العامرية ، وعن الأطفال في عدد من أحياء الفلوجة ، أولئك الذين كانوا ( يلبطون في اليورانيوم كأسماك زينة ملونة ) .
وكمواجهة لهذا التصادم غير المتكافئ بين غطرسة المحتل ومقدرات انتمائنا الوطني والإنساني معاً لم يكن لمآلات التعبير إلا أن تستدعي الطفولة كي تصبح معادلاً موضوعياً لصداح الرفض والإدانة :
مع دموع الله
يهبط الأطفال
كما تهبط الفراشات بمظلات ملونة
الجنرالات يحبون القنابل
الأطفال يحبون الشوكلاته ...
ومع حس الطفولة الفياض بمدلولات أدائية راعفة البوح تحضر صورة الأم كامتداد عاطفي يمتلأ المشهد العراقي بمكابداته ونوحه وأساه :
على سجادة صلاتها
تطحن أمي دعاء يابساً
وترشه قبل النوم على الأولاد ...



معجم الحروب
إذا كان مامرّ ذكره مظلات تعبيرية أتت لتصنع أنساقاً دالة في تجربة جواد الحطاب الشعرية فإن انشغالاته تلك صنعت لها مجموعة من التكيفات الدلالية التي تعلن عن نفسها في حدود التداولات التي أعيد انتاجها في أكثر من نص شعري يحتكم إليها ، لتصنع معجمية موضوعاتية تنطق بها .
فيما يخص تجربة الحطاب الشعرية فقد بدت صورالحروب قدراً تلبس تعبيريته ، حتى لا فكاك له من تجسيد مكابداتها، والإنكفاء على ترديد فواجعها بنزوع رثائي لا تنطفيء جمرته وتردده في متن أكثر من نص في هذه المجموعة ، كما نصه (تواريخ) الذي جاء فيه :
في سنة الحرب الأولى /
قررت أن أزرع أصابعي
في كل حفرة أراها/
قلت : غداً/ لابد أن تمطر السماء
وتورق الأصابع أزهاراً
في سنة الحرب الثانية /
ارتأيت أن أزرع أصابع كف واحدة
فالثانية أحتاجها /
لحلاقة ذقني، وأداء التحيات
مع تدفق سنوات الحرب علي /
قلت :أدفن نفسي في أقرب موضع
وأنام كالقتيل /
ولكن لم يتح لي ذلك /
فقد أمطرت السماء قنابل
وأورقت أصابع الشهداء /
بتربة قلبي علامات استفهام ...
يكتفي الحطاب في نصه (أحد عشر كوكباً) باستعادة موجزة يتناص بها في عنونته ، وفي عدد مقاطعه مع ما حملته إحدى آيات سورة يوسف عن حلمه برؤية أحد عشر كوكباً. وفي ماعدا ذلك فإن متن النص يأخذ منحى مختلفاً ، حيث ينشغل بتفصيلات الحروب وتفصيلاتها التي تندّ متدافعة من ذاكرة لاتني تستعيدها بأسى جارح ، يصل حد التساؤل الفنطازي عن هذه المقادير من زحام الموت الذي يواجهنا:
اتكأت على كتف الوطن
وتساءلت
مالذي نفعله بالقنابل
الفائضة عن حاجة قتلنا؟!



وفاء و(أعدقاء)
لم يكن المتنبي وحده من استحضر الحطاب وجوده وسمات تجربته الإنسانية في بعض نصوصه ، فقد تنادى الشعراء القدامى والمعاصرين بأسمائهم ونصوصهم في هذه المجموعة على نحو لافت ، وكان الشاعر يتناص معهم في حوارات فكرية وشعورية كثيرة ، وتلك ميزة للشاعر الواثق من عمق الخصوصية في تجربته ، مثلما هي لمسة وفاء حقيقية طالما تجلت لدى كثير من الشعراء الكبار الذين يحترمون تجارب من سبقهم ، فضلاً عن كونها تأكيداً لسمة التواصل الخلاق بين الأجيال التي أغنت مسارات الشعرية العراقية ، وحققت لها سمات تمايزها عن سواها .
ورثاء أولئك الشعراء والمبدعين الكبار لا يتأتى مساحة وفاء لا يشك أحد في الامتلاء النبيل الذي تعايشه ذات الشاعر من خلالها معهم  ومع الهم الإنساني الذي تكيف  فيه وجودهم وإبداعهم ، بل بوصف ذلك جزء من تركيبة الأسى المقيم على أكتاف وجودنا العراقي كله . هكذا يأتي في هذا السياق نصه في رثاء الجواهري (مقبرة الغرباء) الذي يحمل متنه أكثر من مفارقة دلالية وتعبيرية تتزاحم بين أسطره ، فهو نص نثري في رثاء شاعر تمّ للعمود الشعري أن تتطاول قامة وجوده الحديث عبر منجزه الذي ذهب بعيداً في زمانيته وضخامته النصية .وسيتداخل مع هذا النص الرثائي عن الجواهري نص آخر للشاعر(سعدي يوسف)الذي كيف وجوده في الغربة ،وأسس لإنتماءات سلوكية غير ذلك الذي يفيض به إناء نصه .
وفي هذا السياق ، ولكن بتكريس أكثر ذاتية تجيء قصيدته عن الشاعر العراقي الراحل (يوسف الصائغ ). وغير ذلك فقد تذكر الحطاب أكثر من شاعر وصديق ، كلهم ممن استهلكت الغربة وجوده الإنساني وانتزعته من دفء المكان وحميمية الذكرى . و كأن الحطاب وهو يهدي نصوصه إليهم إنما يدين تلك الضراوة التي استبدت بهم ليغادروا وطنهم ، غير أن الأمر ـ وفي وجه من وجوهه ـ يخبر عن مقاصد من العتب المبطن يوجهه إليهم شاعر لم يغادر وطنه حتى في أحلك مراحل وجوده داخله وأكثرها تماساً مع الخوف والقلق والفقدان .وربما كان نصه (الأعدقاء) يترسم تلك الوجهة من الإصرار على تلك الفكرة التي نطق بها أكثر من نص، ولاسيما حين يستبد الانتماء الراسخ إلى المكان / الوطن بأبعاد الوجود الإنساني كلها عنده:
أعدقائي
الأرض "التي عشت عليها"
الأرض "التي أعيش عليها"
الأرض "التي سأعيش عليها"
دائماً / هي نفسها / أرضي
هناك : إذا أغمي عليك
تهتم بك الإسعاف
هناك : إذا ارتكبت جريمة
يهتم بك البوليس
هناك : إذا سقطت ميتاً
تهتم بك البلدية
... لكن / من يهتم بدمعك
حين يصبح غروب الشمس : بلادي؟
بدت واحدة من المفارقات من قبل الشاعر جواد الحطاب أن يجعل الديوان في جزأين، مع أن الإشتغال في الديوان كله متداخل ومتواصل بفاعلية نشيج يكرر ثيمات أسانا الراعف ويستعيدها ، ليصبح هذا الجزء أقرب إلى الرثائيات التي ترصد كثيراً مما حرى من وقائع جرحنا الذي وسع الاحتلال مديات نزفه المادي والشعوري إلى ماتخطى حدود الصبر والتحمل . ولعل نص (استغاثة الأعزل) هو الأهم من بين نصوص هذا الجزء ، وقد استعاد الشاعر فيه تفصيلات الواقعة المروعة لاستشهاد الإعلامية (أطوار بهجت) على أيدي خفافيش الموت القادمين من عتمة خراب مدنس بالكراهية .
وكما يتدافع في هذا النص الشعر مع النثر فقد تدافعت ذات الشاعر الصاهلة بحنجرة الأسى والفقدان مع الذات الجمعية التي عايشت مشهد الموت ، وهو يتلاعب بأجساد ضحاياه الأبرياء ، ويفكك تقاطيع أجسادهم ، ليفكك معها طمانينة انتمائنا القيمي ، وماندعيه من وعي ونؤسس له من وجود عصري .
ولأنه لم يكن بإمكان الذهن أن يتماسك وهو يكابد تشكيل وقائع المأساة برصد متسلسل فقد كان اسلوب (السيناريو) الذي جاء عليه أكثر مناسبة من أية صيغة نصية أخرى، يمكن لها أن تدعي قدرتها على حمل متنه الدلالي برصده المأساوي وتراكمه الوقائعي ولغته الراعفة .
لقد وقفت الشهيدة وحيدة ، وفي ظل خضرة عينيها إلتاذت القباب المذهبة ، وخارطة العراق المدلاة ، وروحها الطرية ، لتواجه ذلك النعيب المتدافع من حولها لأصوات القتلة ، تاركة الحطاب الذي يواجه حضورها الجميل ، مبررأ فقدانه :
وماذا في رحيلك يا قديسة:
عينان خضراوان
واحتاجهما الله
لإضاءة ليل الجنة ؟


تقنية التشكيل التصويري
كيف تسنى للحطاب أن يندس بهذا العمق في شغاف مكابداتنا وأحزاننا ، ليصل إلى هذه القرارة الموجعة من الكشف عنها ؟
أهي بعض سمات شخصيته التي تلامس ماحولها ـ وهي تستدرجه إلى مساحة وعيها به ـ بكثير من السخرية التي تصل حداً فنطازياً موجعاً.
إن في متن الحطاب فاعلية تعبيرية عالية الذكاء المفرط في الإلتقاط التعبيري والتجسد التصويري الذي يأخذ أحياناً ببساطته اللماحة إلى كشوفات تجادلنا يومياً ونحس بها ، وهي تحتك بجدار أرواحنا كل يوم ، ولكننا لانستطيع أن نخبر عنها كما يجيد هو ذلك.
وعلى مستوى جماليات الأداء فقد تجلى حرصه على تقنية التشكيل التصويري الذي يستفيد من البياض والفراغ المنقوط ، وتزاحم علامات الترقيم .وهي لا تأتي بممارسة كتابية فقط ، بل تستلهم الوعي العالي الذي يمتلكه الحطاب وإدراكه لقيمة التعبير المنفعل الذي يترك لتلك التقنيات من الترسم الدلالي أن تشرع مساحة لأكثر من القول المنصوص عليه ، وتمنح أفق التلقي فضاءً مفتوحاً لمجالات قولية متسعة البوح
كما استعاد الحطاب كثيراً من الموسيقى التي تكيفت بها وانفعلت لها نصوصه ، فجاءت بما هو متمسك بالقالب الشعري الموروث ، سواء له ، أو عبر الإقتباسات من نصوص شعراء آخرين ، أو بقالب (شعر التفعيلة) الذي تتجلى من خلاله ذائقة إيقاعية عالية لديه ، أو بالتكيف النصوصي لقصيدة النثر التي أغناها الشاعر بإيقاعية الرؤية ومجادلة الفكرة ،واقتناص مديات التشكيل على الورق برفاهية تعبيرية مثيرة.
وبهذا وغيره يكون الحطاب قد وضع أكليل موسيقى متنوعة البوح والرؤى والتشكيل على جثة البيانو الذي طال عزف موسيقاه الجنائزية على خرابنا الممتد من آماد تأريخنا ، وحتى  متاهات راهننا .


اخبار ذات الصلة

image image image
image
الرئيسية من نحن الخدمات ارشیف الموسوعة

تنزيل التطبيق

image image

تابعونا على

الأشتراك في القائمة البريدية

Copyright © 2018 Mawazin News Developed by Avesta Group

image

اللائحة

الأقسام